خطورة الكوميديا والنكتة في أنها قد تجعل الشخص يتصالح مع سلوكيات سلبية، كتعاطي المخدرات والمشروبات الروحية، أو ممارسة الانحرافات والأفكار الشاذة، أو استخدامها كسلاح للتنمر والعنصرية، والسبب اعتمادها على الإبهار في طريقة عرض النكات، وفي إظهار المنحرف وكأنه صاحب ذكاء متقد وأفكار خلاقة.. عند انهيار سوق الأسهم في عام 2006، ظهرت النكتة السعودية البعيدة عن المناطقية، وتوقف معها استيراد الفكاهة من الجوار العربي، فقد وفرت هذه الحادثة الاستثنائية حالة من الإضحاك العام، وأعطت للسعوديين فرصة مثالية للسخرية من أنفسهم، وفي مرحلة كورونا تعملقت نكتة جديدة، ويعتبر الجاحظ أهم ناقد اجتماعي ساخر في التاريخ الإسلامي، ومن أشهر مؤلفاته: البخلاء، ومعها لابن الجوزي، أخبار الظراف والمتماجنين، وأخبار الحمقى والمغفلين، وكلاهما يرصد التحولات الاجتماعية في الفترة الذهبية للدولة العباسية، والسرديات العربية تظهر تعاملاً أكثر تسامحاً مع ثقافة الإضحاك مقارنة بغيرها، وفيها مقامات مشهورة للتنكيت، كالمقامة الهمدانية والمارستانية والحلوانية، وأول مطبوع هزلي عرفه العرب كان في 1878، وجاء في شكل مجله اسمها (أبو نظارة)، وأصدرها شخص اسمه يعقوب صنوع. في دراسة أجريت على مئة طالب بجامعة هارفارد الأميركية عام 2017، لوحظ أن الطلاب الذين يتقبلون الكوميديا السوداء، أقل عدوانية من غيرهم، وأنهم يتمتعون بمعدل ذكاء أعلى مقارنة بالآخرين، وهذا النوع من الكوميديا أو الفكاهة، محكوم بضوابط في المجتمعات الغربية، فهو لا يسخر من الأشخاص على أساس الشكل أو العرق أو اللهجة، بينما في القنوات العربية وبالأخص في المواسم، لا توجد إلا نكات معلبة ومشخصنة وتجارية، لا تهتم إلا بمؤثري السوشال ميديا وأعداد متابعيهم. عالم النفس الهندي ماوان كاتاريا، قام في 1995 بتأسيس أول نادٍ للضحك، وقال إنه سيقيم جامعة لهذا الغرض، ولكنها لن تمنح درجات علمية، وإنما ستعلم من يلتحقون بها على مناهج الضحك والإضحاك، ومن المفارقات اللافتة، أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول رجح تراجع شعبيته في فرنسا، لأنه لم يعد يرى نفسه في الرسوم الكاريكاتورية، أو يسمع اسمه في النكات السياسية التي تنتقده، وأن أميركا ورغم كلماتها الرنانة عن حقوق الإنسان، تعتبر، بحسب وثائق الأمم المتحدة، الأولى عالميا في عدد معاهدات حقوق الإنسان التي لم توقع عليها، وفي إعدام المجرمين الصغار، وفي أعداد الأطفال الذين ينتحرون داخل أراضيها أو يقتلون بالرصاص، وهم دون سن الخامسة عشرة. الضحك غير المقنن أو المدروس ربما قاد إلى فواجع، مثلما حدث مع الكاتب الأسكتلندي الارستقراطي توماس أركروت، والذي مات فعلاً من الضحك، عندما عرف أن الملك تشارلز الثاني، وصل لحكم إنجلترا وأسكتلندا وإيرلندا، ويعتقد عالم جراحة الأعصاب روبرت بروفن أن 80 % من ضحكات الناس اجتماعية أو مجاملاتية وليست عفوية، والمشكلة في الثانية، بخلاف أن الدكتور غيل غرينروس، وجد في دراسة أجراها على ممارسي كوميديا الموقف وكتاب الكوميديا أنهم يموتون في أعمار أصغر مقارنة بالآخرين، ومناعتهم ضد الأمراض أقل بمعدل الضعف، وطرحت رواية ميلان كونديرا (المزحة) احتمالية وصول التنكيت إلى مستوى الجريمة، والسابق لم يأتِ من فراغ، فقد كان مثقفو عصر التنوير ينظرون بدونية إلى النكتة، ويضعونها بجوار الأساطير والهلاوس، حتى أن بعضهم طالب بعدم معاقبة من يقتل شخصا نكت عليه أو معه بطريقة غير لائقة، وهؤلاء يسمون بأنصار المنهجية العلمية الجادة، ومن بينهم علماء كغاليليو ونيوتن، وفلاسفة كديكارت وهيوم واسبينوزا، ولعل الموقف المحتد يرجع في جزء منه إلى قيام الأباطرة بتنظيم رحلات ضحك ميدانية يزورون فيها المصحات العقلية للسخرية من المجانين، في سلوك غير إنساني ومستفز. أقدم كتاب للنكت موجود إلى اليوم اسمه (فيلوجيلوس) وهو يحتوي على 264 نكتة يونانية قديمة، وقدرتها على إضحاك الإنسان المعاصر غير مضمونة، لأن عقليات الناس وأسلوب حياتهم اختلفت تماما، وفي أثينا ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، تواجدت في مدينة واحدة، الأماكن الجادة مثل أكاديمية أفلاطون، والأماكن الهزلية الساخرة كالنادي الكوميدي المعروف باسم مجموعة الستينات، أو كما قال الفيلسوف الأميركي جيم هولت، ولاحظ الباحثون وجود أشخاص لديهم فوبيا من الضحك الساخر، أو (غلاتا فوبس)، وأصحابها عدوانيتهم مرتفعة ضد من يقومون بهذه التصرفات حتى وإن لم يكونوا مقصودين بها. خطورة الكوميديا والنكتة في أنها قد تجعل الشخص يتصالح مع سلوكيات سلبية، كتعاطي المخدرات والمشروبات الروحية، أو ممارسة الانحرافات والأفكار الشاذة، أو استخدامها كسلاح للتنمر والعنصرية، والسبب اعتمادها على الإبهار في طريقة عرض النكات، وفي إظهار المنحرف وكأنه صاحب ذكاء متقد وأفكار خلاقة، والواقع يؤكد عكس ما سبق بلا استثناءات، والمملكة عرفت قامات هزلية فارعة، امتهنت الفكاهة وترجلت، أمثال: عبدالعزيز الهزاع ومحمد سليم وسعد التمامي، إلا أنها ما زالت تحتاج توطين النكتة المحلية، وتحديداً الموجودة في الدراما والمسرح والسينما ومراكز الإضحاك، وتوظيف حبكات فكاهية تناسب اهتمامات الناس، لأنها لن تكون مقنعة إذا اقتبست من ثقافات بعيدة، أو من سياق تاريخي وقيمي مختلف، مع ملاحظة أن القوالب الناجحة في الماضي من المستبعد نجاحها في الوقت الحالي، فأذواق الناس وتوقعاتهم تغيرت تماماً، والدليل (طاش العودة) ومشاهداته الخجولة جداً.
مشاركة :