اختلاف الفتاوى ثمرةٌ لاختلاف الاجتهاد، وهو أمرٌ محمود ومندوبٌ إليه، وهو من محاسن الشريعة، فلم يكن اختلاف الفتاوى عند المتقدمين سبباً للنزاع والشقاق بين المسلمين، وإنما كان عنواناً على سَعة الشريعة، وحجَّةً للناس في أن يختلفوا في شؤونهم الحياتيَّة من غير أن تختلف قلوبُهم، لأنهم رأَوْا أن العلماء ذكروا أن اختلاف الفقهاء في أحكام الصلاة لا يُبيح للناس ألا يُصلِّي بعضُهم خلف بعض، فتختلف اجتهادات الفقهاء في المسألة الواحدة، ولا تجدُ أحدَهم ينكر على الآخر اجتهاده، ولا يلغي رأيه، فقد اختلف الإمام الشافعيُّ مع جمهور العلماء في وجوب قراءة «بسم الله الرحمن الرحيم» فجمهور العلماء ترجَّح عندهم أنَّ البسملة ليستْ آيةً من الفاتحة، فلا تبطل الصلاة بتركها، والراجح عند الإمام الشافعيِّ أنَّ البسملةَ آيةٌ من الفاتحة، فتبطل عنده الصلاةُ بترك البسملة، ولم يكن هذا الاختلاف سببا للتنازع، بل إنهم اتفقوا على أن مِن المنكرات المبتدعة أنْ يَحتكر أحدٌ الاجتهاد، فيزعم أنَّ قولَه هو الراجح وهو الصحيح وهو الذي عليه الدليل! فيُلغي اجتهاد غيره، بل ذهب العلماءُ إلى أكثر من ذلك، فإنَّ مَن يتعبَّد الله تعالى على مدرسة الإمام الشافعيِّ مثلاً، لا يجوز له تركُ الصلاة خلف مَن لا يقرأ البسملة، بل يجب أنْ يصلِّي خلفه، وصلاتُه صحيحة، وهذا الأمر مما لا خلاف بين العلماء فيه، وقد يستشكل بعضُ الناس اختلاف الفقهاء في المسائل الفقهية، فقد سألني رجلٌ: أليس هذا تضارباً في الفتوى، فقلتُ له: يسيرٌ على الشارع الحكيم أنْ يَنصَّ بكلماتٍ يسيرةٍ، على حكمٍ قاطعٍ في كثير من المسائل الفقهية، غير أنَّ حكمة الشريعة اقتضَتْ أن يكون حكم كثير من المسائل موضعَ اجتهادٍ، بخلاف أحكام الميراث، فقد كانت معظم أحكام تقسيم الميراث موضعَ اتِّفاقٍ بين العلماء، جعلها الله قطعيةً لمنع التنازع بين الورثة، أما معظم مسائل الفقه فكانت محلَّ اجتهادٍ لحِكَمٍ عديدة، الذي يهمُّنا منها في هذا المقال، أن نرى فيها نموذجاً مشرِّفاً لتوسيع ساحة البحث والاجتهاد العلمي، فتختلف الآراء والاجتهادات، من غير أنْ تتنافر القلوب، وتَقْوَى الملَكةُ الفقهيَّة، ويرتفعُ الجمود واليُبْس، مع بقاء التَّآلف والوُدُّ، وهذا معنى قول سيدِنا عمر بن عبدالعزيز: (ما أُحـبُّ أنَّ أصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولاً واحداً، كان الناسُ في ضيق) فهذا الإمام الشافعيُّ رضي الله عنه، اختلف مع تلميذه يونس الصَّدَفي، فيقول الصَّدَفيُّ: (ما رأيتُ أعقلَ من الشافعي، ناظرتُه يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتَّفق في مسألة) قال الإمام الذهبي: (وما زال العلماء قديماً وحديثاً يَردُّ بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفَقَّه العالم وتتبرهن له المشكلات) ومن جميل ما روى العباسُ بن عبدالعظيم العنبـري قال: (كنت عند أحمد بن حنبل، فجاءه عليُّ بن المدينيِّ راكباً على دابة، فتناظـرا، وارتفعت أصواتهما، حتى خِفْتُ أنْ يقع بينهما جَفاءٌ، فلما أراد عليٌّ الانصرافَ، قام أحمدُ فأخذَ بركابه) ومن ذلك ما حكاه الإمام سفيان بن عيينة أنَّ الإمام أبا حنيفة اجتمع مع الإمام الأوزاعيِّ بمكة فقال الأوزاعي: ما بالُكم لا ترفعون يَديكم عند الرُّكوع والرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لأجْل أنَّه لم يصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيءٌ، فقال الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدَّثني الزهريُّ عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه) فقال أبو حنيفة: حدثنا حمَّاد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود لشيءٍ من ذلك) فقال الأوزاعي: (أحدِّثك عن الزهري عن سالم عن أبيه وتقول حدثني حماد عن إبراهيم؟) فقال أبو حنيفة: (كان حمَّادُ أَفْقَه من الزهري، وكان إبراهيمُ أَفْقَه من سالم، وعَلْقمةُ ليس بدون ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر صحبة وله فضل) إن ما وَرَّثَه لنا الأئمةُ الكبار مفخرةٌ من مفاخر التاريخ، وما أصاب الأمَّة ما أصابها من هذا البلاء إلا بِبُعْدها عن هدْيِ الأنبياء ونهج سلفنا الصالح ومَن خَلَفهم بإحسان، حتى صِرنا نرى شباباً صغاراً حُدَثاء الأسنان، يُنكرون على غيرهم في المسائل الاجتهاديَّة، وغاب عنهم أن الإنكار في مسائل الاجتهاد بدعةٌ منكرة .
مشاركة :