تقول الحكاية إن الصاحب بن عباد كان يحمل في سفرياته حمولة ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالع بها أثناء سفره، فلما وصل إليه كتاب الأغاني للأصفهاني استغنى به عن حمولة الثلاثين جملاً من الكتب، وهذه حكاية رامزة تستدعي السؤال عن سر هذه الحكاية التي كشفت مقام كتاب الأغاني في الثقافة العربية من حيث إنه يفوق حمولة ثلاثين جملاً من الكتب، على أن التراث العربي يحفل بالحكايات التي ظلت تروى باللسان حتى إذا ما استقر أمر بناء الكيان الوطني العربي الكبير، شرعت الأذهان العربية في بناء الهرم الثقافي، وتحركت الهمم في تدوين ما كان شفاهياً، وشمل ذلك أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك أحاديث الثقافة من الشعر أولاً، وهو الذي حظي باهتمام عظيم ثم من حكايات جاءت بمقامٍ أقلَّ من مقام الشعر. ولكن حدثت حادثةٌ ثقافية فارقةٌ حين تصدى أبو الفرج الأصفهاني في كسر الحاجز بين القصيدة والحكاية، وجعل الأغنية هي التي تحقق كسر هذه القطيعة الثقافية من حيث إن الأغنية لا تتم إلا بالقصيدة ومن ثم تتولد لهذا التزاوج حكايةٌ أو حكايات، وهنا تضافرت شروط الخيال مع شروط التأليف بما أن الأصفهاني نهج منهجيةً نادرة، إذ قرر تتبع مئة صوت غنائي وراح يجري مع النص الشعري وكيف انبثق النص ليتحول للحن غنائي ولو بعد قرون من ظهور النص. وبما أن النص عبر الأزمنة حتى وصل لحناجر المغنين، فإن النص أيضاً تحول لحكاية تروى، وتم ذلك عبر تقلبات الزمن التي شكلت ولادات ثرية للحكايات، تحول معها الشعراء إلى قصص تعمر الأخيلة، وهنا لم تعد الرواية تنقل نصوصاً مجردة بل تنقل تحولات ثقافية تلتقط مراحل محطاتها الزمنية، وكل زمن بشري يشحن نصوصه العابرة بشحنات من الحكايات التي تصدى أبو الفرج الأصفهاني لرصدها، ليكون كتابه أهمَّ نص ثقافي عربي يجمع ذاكرة الأرض والبشر وروح الثقافة ونسغها. وحظي الكتاب بتقدير نادر في سرعته ونادر في مستواه، فقد أثرت قصة اهتمام الوزير ابن عباد بكتاب الأغاني، حيث احتفل به احتفالاً عظيماً وهو العالم المتبحر وذو المكان الرفيع في زمنه، فسرت هذه الحكاية عنه لتصبح حكاية الحكايات، وفتحت أبواب القبول للكتاب، وكأن هذه القصة جائزة نوبل في زمننا هذا، إذ تشهر الفائز بها وتظهر عمله، وتكتب له سيرةً جانية تفوق سيرته الأصلية. على أن حال كتاب الأغاني هي اعتراف ثقافي مبكر بأن الحكاية تستطيع بلوغ درجات عليا في الثقافة، خاصةً أن كتاب الأغاني سجل حكايات الفحول، والشعراء كما يقول عنهم الخليل بن أحمد هم أمراء الكلام، ومن ثم فإن ذكاء الأصفهاني ونباهته قد جعلته يدرك خطورة معنى أن يكون النص شعرياً وأن تكون للنص حكايةٌ، وستكون حكاية النص بمثابة حكاية الفحل، ومن ثم ستكون أغنيةً وستكون قصةً، وستكون كتاباً يغني عن حمولة ثلاثين جملاً من الكتب التي كانت تتنقل مع ابن عباد، حيث حل أو رحل، فجاء كتاب واحد ليكون هو كل الكتب، ومن ثم سيصبح الكتاب هو الكتاب الفارق في الثقافة العربية، وتظل السردية والشعرية مع الإيقاع الموسيقي هي بثلاثتها الملتقى الإبداعي لكل الفنون العربية. وإنْ كان المسرح لدى اليونان هو أب الفنون، فإن كتاب الأغاني جعل الشعر هو أبو الفنون عربياً، حيث منه تخرج الحكايات، ومنه تتولد الأنغام وهذه هي نظرية كتاب الأغاني. كاتب ومفكر سعودي أستاذ النقد والنظرية - جامعة الملك سعود - الرياض
مشاركة :