منذ السبعينيات طرح علماء النفس نظرية الجين الثقافي متصلاً بالجين الوراثي، ويتماثلان في الأثر، وفي ضرورة المعالجة، والذي يهمني هو الجين الثقافي الذي يعمل عمل الجين الوراثي، ويتشكل عبر تلبس الذهنيات بظروف البيئة والتوارث الثقافي في السلوك، وفي القول الذي يوصف عادةً بالقول السائر، وهو ذلك القول الذي يعبر الزمان والمكان ومع التواتر والتعاقب يترسخ هذا الذي كان سائراً فيتصلب ويثبت في الأذهان، وهذا ما سميته في بحوثي بـ (قانون تاء/ تاء)، وشرطه (التواتر والتعاقب) معاً، حيث يكتسب حصانةً تقيه من النقد فتستسلم له النفوس وتتطبع به الذهنيات، ومن ثم فإن هناك أنساقاً ثقافية مترسخةً مثل نسق الشعرنة في الثقافة العربية، ونسق العقلنة في الثقافة الغربية (اليونانية أصلاً)، بما أن الشعر هو ديوان العرب والفلسفة ديوان أوروبا، وكلاهما خطاب يجمع بين الجمالي والنسقي، متمثلاً بالأنا المتعالية والمتضخمة والمتغلغلة في الخطاب الفلسفي والشعري معاً، ومن ثم يتنزل على السلوك الفردي والفئوي (النحن)، وشفيعه المجاز شعرياً والعقلنة فلسفياً، فأفلاطون يقول مثلاً بأن العقل يحكم ومع ذلك يميز بين السادة والعبيد، وينفي الشعراء من جمهوريته، ويعتبر المرأة نصفَ رجلٍ، ويقول بقتل الضعفاء، لأنهم لا ينفعون في دولة العقل، وقد تصدى ديفيد هيوم لمقولة أفلاطون، وقال إن العاطفة هي التي تحكم وليس العقل، غير أنه فيما يبدو قصد مجرد مناكفة أفلاطون، وفي النهاية مال للعقل، وإن بأسلوب غير صريح كما عند سلفه. على أن النسق الكلي في الشعر، وفي الفلسفة هو الذاتية المفرطة عند الفيلسوف، كما عند الشاعر وهذا ما لمسه روسو حول أنانية الفلاسفة وتعاليهم الذاتي، وكل فيلسوف يرى أن خطأه أنجع من صواب غيره، حسب توصيف روسو، ويرى التميز فقط في مخالفة ما يقوله سابقوه، وكذلك فعل برتراند راسل حين وصف معظم مقولات هيجل بالزيف، وهذا يشبه حال الشعراء مع الشعراء في ذاتيتهم المتعالية. ولو استعرضنا أزمنتنا منذ الجاهلية حتى يومنا واستحضرنا ثلاثة أبيات تترجم تاريخ الشعر كله من حيث الأنا المتعالية، فسنرى حال النسق الذي هو جين ثقافي يعمل عمل الجين الوراثي، ويترسخ بالتعاقب والتواتر، فعمرو بن كلثوم يقول: إَذا بَلَغَ الفِطامَ لَنا وَليدٌ تَخِرُّ لَهُ الجَبابِرُ ساجِدينا والمتنبي يقول: وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً ونزار قباني يقول: جربت أنواعَ العبادة كلّها فوجدت أحسنها عبادةَ ذاتي وهذه ليست ادعاءات فردية، بل هي نسق متصل وعابر للقرون، ويقع في الشعر وفي الحياة العامة بصيغ تختلف أسلوباً ولغةً، ولكنها تحيل لمضمر نسقي حمولته شعرية عندنا وفلسفية في الغرب، وهذا تواتر وتعاقب يكشف النسقية المتعالية على النقد عبر سلاح المجاز الذي يحمي الشعر من سيف النقد، كما تحمي الفلسفة نسقها عبر دعوى العقلانية، والمجاز شعرياً والعقلنة فلسفياً هي أدوات النسق في استدامة مفعوله وتسويق جماليته المسمومة، وما أفلاطون والمتنبي إلا قمة الهرم لكونهما الأبرز، كل في سياقه وثقافته. كاتب ومفكر سعودي أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض
مشاركة :