لا شيء يشغل المشرعين حول العالم سوى مسار التضخم. وسيبقى هذا «الهم» متصدراً الساحة إلى أن تتم السيطرة عليه فعلياً، على الرغم من تراجع أسعار المستهلكين بمعدلات لافتة خلال الأشهر القليلة الماضية. وهذا التراجع دفع البنوك المركزية الرئيسية إلى تجميد رفع الفائدة، وإبقائها عند حدودها الحالية التي تعد مرتفعة أصلاً. ويبدو أن سياسة التشديد النقدي ستتواصل في الاقتصادات المتقدمة، بصرف النظر عن آثارها السلبية على مستويات النمو، فالهدف الأول يبقى خفض أسعار المستهلكين، بعد عامين تقريباً من معاناة اجتماعية حقيقية بفعل زيادات لم تتوقف لأسعار السلع، بما فيها تلك التي تعد أساسية، حتى أن بعض المجتمعات الغربية تعاني حالياً من اتساع دائرة الفقر، ما أدى إلى تدخلات حكومية وحتى خيرية للتخفيف عن شرائح بعينها، نال منها التضخم أكثر من غيرها. المشكلة التي تتصاعد في هذا الميدان أن تفاقم الصراعات الجيوسياسية يزيد من مصاعب كبح جماح التضخم حتى في البلدان التي تمكنت من خفضه في الأشهر الماضية، وهذا ما يفسر تحذيرات مباشرة من رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، تحدثت فيها عن التهديدات على صعيد التضخم، من التوتر الحاصل في الشرق الأوسط، إلى جانب اضطرابات الملاحة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى عوامل أخرى بما في ذلك الحرب الدائرة في أوكرانيا، التي اقتربت من عامها الثاني. هذا الوضع العالمي والإقليمي العام ينشر الخوف حقاً في أوساط المشرعين الذين يسعون بكل طاقاتهم لضمان مستوى مقبول للتضخم يقترب من 2% أو أعلى قليلاً، لبدء «الانفتاح» على خفض تدريجي للفائدة، فحتى الاقتصاد الأميركي الذي حقق قفزات نوعية على صعيد أسعار المستهلكين في الأشهر الماضية، لم يتمكن من الحفاظ على تضخم قريب من 2%. في الفترة الماضية، ارتفعت بالفعل أسعار الطاقة إلى جانب تكاليف الشحن، في ظل عرقلة واضحة لحركة التجارة العالمية. وتعاني شركات الشحن عموماً من مخاطر جمة، بما في ذلك ارتفاع رسوم التأمين التي بلغت مستويات كبيرة للغاية. وسط هذا المشهد بدأت زيادات في أسعار السلع، في وقت تنكب الحكومات على خفضها، ولذلك فإن مخاطر عودة التضخم العالمي للارتفاع مجدداً صارت واردة اليوم، وبالتالي ستستمر سياسة التشديد النقدي باعتبارها الآلية الأكثر نجاعة في مواجهة ارتفاع أسعار المستهلكين عموماً. ما يحتاجه العالم اليوم رفع مستوى التمويل، وهذا لن يحدث في ظل معدلات عالية للفائدة، التي يبدو أنها ستبقى بحدوها الراهنة على الأقل في الربع الأول من العام الجاري.
مشاركة :