رغم أن الوضع الاقتصادي الأميركي يُعد أفضل في هذه الفترة من الاقتصادات الغربية الأخرى، ومع ابتعاد إمكانية دخول أكبر اقتصاد في العالم في دائرة الركود، ومع تحسن أداء الوظائف على الساحة الأميركية، إلا أن الأسواق تنظر بقلق حيال الخطوات المقبلة للمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) في العام الجاري. فالتوقعات تدل كلها تقريباً على أن المشرعين الأميركيين سيرفعون الفائدة في ثلاث مرات على الأقل، في سياق الحرب الدائرة على التضخم. فالمسألة لديهم لا تتعلق بالنمو بقدر ما ترتبط بكبح جماح أسعار المستهلكين هذا العام، قبل أن تستقر الأوضاع بعض الشيء في السنة المقبلة، علماً بأن الاقتصاد الأميركي قد يحقق نمواً يبلغ 1.4%، وهو الأعلى مقارنة بالاقتصاد المتقدمة الأخرى. حتى مع مجرد التوقعات برفع الفائدة الأميركية ثلاث مرات خلال الأشهر المقبلة، تعرضت الأسواق (كالعادة) للتراجع، وعلى رأسها «وول ستريت». فالمستثمرون عادة ما يحولون جزءاً من أموالهم عن الأسهم في ظل ارتفاع الدولار الذي بلغ مستويات كبيرة جراء الزيادات المتتالية السابقة للفائدة، بحيث تقف حالياً عند 4.5% لتسجل أعلى مستوى لها منذ أكثر من 15 عاماً. وإذا ما مضى «الفيدرالي» في زياداته التدريجية، فإن الفائدة ستصل بنهاية العام الحالي إلى ما بين 5.25 و5.50%، لتسجل أيضاً مستوى تاريخي آخر. وهذا يعني أن التوقعات السابقة للفائدة الأميركية التي أشارت إلى توقفها تحت 5% كانت غير صحيحة، ما يضع علامات استفهام حول معدل النمو في العامين المقبلين على الأقل، حيث ستجري انتخابات رئاسية لا أحد يستطيع تحديد أطرها النهائية في الوقت الراهن. تباطأ التضخم السنوي على الساحة الأميركي إلى 6.5%، وهو الأفضل مرة أخرة مقارنة بمستويات التضخم في كل من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، لكن مسار الفائدة لن يتباطأ، على أساس أن ضمان تضخم تحت السيطرة أفضل من حدوث نمو تحفه المخاطر. من هنا يأتي قلق الأسواق، التي بدأت بالفعل تشهد خروج مستويات متزايدة من الاستثمارات، ليس فقط على الساحة الأميركية بل والأوروبية أيضاً. «وول ستريت» التي حققت قفزات ملحوظة في الآونة الأخيرة، تشهد حالياً هدوء أكثر من حذر، في ظل تبدل التوقعات حيال الفائدة الأميركية. يصعب العثور على جهات مالية دولية تؤيد التوقعات بعدم رفع «الفيدرالي» الفائدة هذا العام. فحتى بنك الاستثمار الأوروبي «بو بي إس»، الذي خالف التوقعات يعتقد أن الزيادات المشار إليها لن تكون أكثر من ربع نقطة مئوية في النصف الأول من السنة الحالية. وأياً كانت مستويات رفع الفائدة الأميركية في المستقبل القريب، فإنها ستواصل تأثيراتها السلبية على النمو، وعلى أسواق الأسهم التي تخشى خروج المزيد من الاستثمارات، ناهيك عن تأثيراتها الخطيرة على ديون عشرات الدول التي تواجه ارتفاعاً مطرداً لتكاليف هذه الديون المقومة غالبيتها بالدولار.
مشاركة :