يبدو ظاهريا أن عالم الشعر نقيض عالم العلم والتكنولوجيا، وهذا أمر مغلوط يحصر الشعر في المشاعر ويلغي عنه أهم سماته كالفكر والتوثيق، ألم تكن قصائد كبار الشعراء أمثال المتنبي وأبي العلاء المعري وثائق تاريخية وحكما عقلية، وهنا لا بد للشاعر أن يكون ابن زمنه ومكانه، وهذا ما يعيه الشاعر والكاتب المصري أحمد فضل شبلول. يذكرني ديوان “دفتر العقل” للشاعر أحمد فضل شبلول بحوار قديم جرى بيني وبين الصديق المبدع نهاد شريف -رائد أدب الخيال العلمي- وكان قد قرأ بعضًا من أشعاري واستخرج منها بعضًا من هذا الخيال العلمي. وقد دار الحوار حول قدرة الشعر على التعبير بوسائل وأدوات هذا الخيال، فهو يعتقد أن الشعر يستطيع ذلك لو كانت لدى الشاعر معرفة بهذه الوسائل والأدوات. وبصراحة كنت حذرًا في تصديق ذلك، خشية أن يفقد الشعر جمال اللغة وخيال الصورة ومخاطبة الإحساس الإنساني. لكن يبدو أن نهاد شريف كان على حق في رأيه، فهذا أحمد فضل شبلول يقدم لنا تلك المعادلة الصعبة التي مزجت العلم والتكنولوجيا بخيال الشعر. الشعر والكومبيوتر أحمد فضل شبلول يسوق الحقائق العلمية ويصوغها شعرًا ليبسِّط هذه الحقائق أحمد فضل شبلول يسوق الحقائق العلمية ويصوغها شعرًا ليبسِّط هذه الحقائق أظن أن شبلول قد غرِق منذ سنوات في الحالة الرقمية حتى صارت بين يديه لينة متاحة، واستجاب عقله لها لنجد صدى هذه العلاقة في الكثير من كتاباته وآرائه النقدية. وديوان “دفتر العقل” الذي بين أيدينا يقدم مناظرة بين العقل والشعر، وهي مناظرة بين طرفين يبدوان متناقضين، لكنهما في الحقيقة يتمتعان بالملاطفة والتقارب من أجل نتيجة أخيرة تؤكد التقارب حتى المزج والتماهي. نحن هنا ندرك من أول لحظة أننا أمام شاعر يفكر بأسلوب الكومبيوتر، ويبدع بأسلوب الكومبيوتر، ويسوق المصطلحات في قصائد طيّعةً معبرةً بلا صعوبة، ولا يشعر القارئ بالغربة، وهو يأخذه ليعرّفه على هذا العالم ببساطة وفنٍّ معًا. إن عنوان الديوان هو “دفتر العقل”، وليس “دفتر المشاعر” أو “دفتر القلب”، وهو عنوان يبدو أنه ينزع الشعر من منبعه المألوف، ويلقيه في جُب العقل والفكر. إنه يدعو القارئ أن يتحرر من كل الموروثات الفنية التي تعتمد الخيال الجامح، ويطلق ذاته بلا قيود، يقول “من حقِّكَ أن تُصبحَ حُرا/ وتكونَ غنيّا وثريّا في أفكارِكَ/ في كلماتِكَ!/ أطلِقْ ذاتَك من مَخبئِها/ من مجمرِها/ من مَبْكاها/ أخرجْها للشمسِ وللبحرِ وللحريّة/ حرِّرْ عقلَك من ظلماتِ التاريخ/ طَهِّرْهُ من كلِّ المعتقداتِ العبثيّة”. ثم ها هو يجسد تلك العلاقة بين عقله وحاسوبه، وكيف صار مُسيطرًا على أفكاره، يسرقها ويهدده ويتغلغل في أعصابه. وهو هنا لا يشكو الحاسوب بقدر ما يصوّر لنا عمق هذه العلاقة وخطورتها. يقول “حاسوبي يقرأُ عقلي ../ ويبرمجني/ يسرقُ أفكاري../ ويهدِّدني/ يتغلغلُ داخلَ أعصابي ../ ويُشتّتُني”. ثم يقول “حاسوبي ../ حوَّلني لرموزٍ أو شفراتْ/ أدْخلَني في دوَّاماتِ اللوغاريتمات/ حاسوبي ../ أصبح لصًّا للمعلومات”. ولأن تلك العلاقة لا مكان فيها للأحاسيس والمشاعر حتى أن الذكاء الاصطناعي الذي هو نتيجة لهذه العلاقة لا يزال يعجز عن تخطي هذا الجسر الشائك إلى كتابة الشعر أو التعبير عن المشاعر. أقول إن شبلول يرصد جوهر هذه العلاقة، ويجرد حبيبته من تلك العاطفة الإنسانية، ويعرّي حقيقة الجسد بعيدًا عن جمال المشاعر حين يقول “أنتِ سجينةُ جسدِكْ/ أهوائِكْ../ وجمالِكْ/ لكنَّ دماغَكِ يتحرَّرُ من أفعالِكْ/ قدماكِ تضيعانِ على الطُّرقَاتْ/ وجمالُكِ يذوي عند اللمساتْ”. ثم يقول “سأزْرعُ في قشْراتِ دماغِك/ أفكارًا../ أحلامًا../ كلماتْ/ لتعودَ الروحُ إلى جسدِك/ ويعودَ جمالُكِ يعبقُ في الزَّمَكَانْ/ ويعودَ الوعيُّ إلى الإنسانْ”. وقد يظن القارئ أنه يزرع الأحلام والكلمات الشاعرية إلى جانب الأفكار، لكنه هنا لا يعترف بذلك، فأحلامه مبرمجة، وكلماته كذلك، تماما كما أفكاره المبرمجة. ولنا أن نلاحظ دقة هذه الرؤية في قوله “ويعودَ جمالُكِ يعبقُ في الزَّمَكَانْ/ ويعودَ الوعيُّ إلى الإنسانْ”. وهي مصطلحات بعيدة تماما عن العاطفة الإنسانية. الكتاب مناظرة بين العقل والشعر، وهي مناظرة بين طرفين يبدوان متناقضين لكنهما في الحقيقة يتمتعان بالملاطفة والتقارب وشبلول يؤكد ذلك في القصيدة التالية “ثغرات العقل الإنساني”، فهو يفترض أن العقل به ثغرات أو ثقوب، وهو يحاول جاهدًا أن يسد هذه الثُّغرات بالموسيقى أو الشعر أو الأفلام الرومانسية، لكن العقل يرفض رفضًا قاطعًا، فلا يكون أمامه سوى ملء هذه الثغرات من مادة العقل نفسه. يقول “فلْأملأُ ثغراتِ العقلِ ببعضِ الموجاتِ الموسيقيّة/ أو بعضِ الجيناتِ الضوئية”. ثم يرصد صراعا بين نصفي الرأس حول معايشة الواقع وصراعاته، أو الانحياز إلى رؤى فنية ترطب جمود الفكر. وبالطبع ينعكس هذا الصراع في الوعي واللاوعي، فيجد الشاعر نفسه حائرًا في صحراء لا نهاية لها، ويتساءل “هل هذا هوسٌ وهلاوسُ/ أم وسواسٌ قهريّ؟/ هل بارانويا .. أم كبتٌ شبهِ سريريّ/ هل هذا خَرَفٌ أم بحثٌ علميّ/ أم تَجوال عقليّ ../ ودراما من نوعٍ سيكولوجيّ؟”. ثم ها هو يصرخ في إلحاح “أحتاجُ ضياءً ونهارًا وحقولا/ احتاجُ سماءً وجمالا ربَّانيّ/ كي أملأَ ثُغراتي/ ويعودَ الطفلُ إلى ذاتي”. وفي النهاية لا يجد سوى ذاته الإنسانية التي يبحث عنها بعد أن سلبها حاسوبه: “من منكمْ يمنحني حبًّا ونقاءَ ملاكٍ نوراني/ من منكم يكسوني قرآنًا../ إنجيلاً ../ صلواتِ نبيّ/ ليكونَ دماغي ../ أقوى .. من كلِّ قوي”. إن شبلول يُصرُّ على أن يسوق الحقائق العلمية ويصوغها شعرًا، وها هو هنا يود أن يبسِّط هذه الحقائق ويجعلها بين يدي القارئ دون غربة، وهذا الأسلوب قد يوقعه -حتمًا- في التقريرية والمباشرة. لكنني لاحظت وعيه بذلك، فكلما جاءت جمله مباشرة أسرع يتبعها بشاعرية في اللغة أو الصورة، وقد أفلح في مواضع كثيرة، وانساق وراء العقل في مواضع أخرى، خاصة تلك المصطلحات الحاسوبية التي عرَّبها وأدخلها عالمه الشعري. المعادلة الصعبة حقائق مبسطة حقائق مبسطة قد توقفتُ مليًّا أمام قصيدة “روح مائية” حيث استطاع شبلول أن يجسِّد مأساة الإنسان المعاصر الحائر بين الحلم والواقع، وبين اليأس والأمل. إنها قصيدة اعتراف بما يكنه إنسان العصر من المحاسن والمساوئ. يبدأ الشاعر قصيدته بقوله “لستُ زعيمًا للكونِ/ ولستُ رسولا للبشريّة/ لكني عَبدٌ من عُبَّاد الرحمن/ أحيانا أَرْعَدُ/ أَرْغي ../ أَزْبدُ ../ وأَفورْ/ أحيانا أهدأُ وأثورْ”. ثم يطوف بنا حول أحواله النفسية المتقلبة وسلوكيات البشر وأطماعهم، وهي حالة قد ترقى إلى حالة التصوف والتجرد من واقع الأرض، فهو قد خُلق من ماء، والماء في كل كائن حي: “الماءُ تغلغلَ في الروحِ/ فصارتْ مائيّة/ الماءُ تغلغلَ في الوجدانِ/ فصارَ شواطَئ فضيّة/ الماءُ تغلغلَ في كلماتي/ صارتْ صوفيّة/ الآنْ ../ أُعلنُ أنِّي مِفتاحُ الكونِ/ ومِفتاحُ القلبِ/ وسرُّ الألوانْ/ الآن ../ ملكتُ العالمَ والبشريّة/ دونَ زعامةْ/ دونَ إمامةْ/ دونَ وصيّة”. إنها لحظة التجلي والمعرفة، معرفة الذات على حقيقتها وجوهرها. والشاعر يشغله دائما المزج بين التناقضات؛ الزمان والمكان، الوعي واللاوعي، العقل والعاطفة، ويحاول في كل وقت أن يوحّد بينها في نسق علمي واحد، ويحاكي بذلك ما يفعله الحاسوب الذي سرق عقله وأفكاره، وجنى على عاطفته، يقول “كنتُ أمنِّي نفسي/ أن تصبحَ أرقامًا من نغماتْ/ سقطَ الرقمُ أمامي/ من علياءِ الإنترنتْ/ أَعْشَى بصري/ لم أنظرْ خلفي/ ضاعتْ بهجةُ أنفي/ لا أتشمَّمُ إلا حرفًا محروقًا/ أو جلدًا شاطَ على شطآن الهمّْ”. ثم يقول “والقرصُ السابحُ في جُمْجُمَتي/ ما زالَ/ مع الغصْنِ يَميلْ”. وهناك قصائد أخرى تصوِّر هذه الحالة التي طغت على عقل الشاعر وجعلته مسلوبًا مهمومًا وأسيرًا لقيود الحاسوب وإرادته. وأخيرًا فإن هذه المحاولة التي أبدعها شبلول تطرح أسئلة كثيرة، في مقدمتها: بأي قدر يمكن للعقل أو الفكر الولوج والامتزاج بالعاطفة الشعرية؟ وهل من الضروري لكي أكونَ معاصرًا أن أذكر دائما مصطلحات الحاسوب والتكنولوجيا بهذا القدر الذي يبعد القصيدة عن مقوماتها الفنية المتعارف عليها؟ ربما حاول شبلول أن يحل هذه المعادلة الصعبة في هذا الديوان بنسبة مقبولة، وربما يجد من النقاد والقرَّاء من لا يستسيغ ذلك، لكن الأمر يستحق فعلا التعمق في فهم هذه المعادلة. ولا أملك في النهاية إلا أن أهنئ شبلول على هذه الجرأة التي ثار بها على المألوف، وحاول أن يعصِّر الأسلوب واللغة والصورة ويسوق الحقائق العلمية طيّعة في النسق الشعري.
مشاركة :