قبل وقتٍ قريب، نشرت منصة «أوان» الثقافية، حوارًا مع الشاعر الكبير قاسم حداد، أجراهُ الشاعر والناقد كريم رضي، بمعيّة الشاعر عبدالله زهير. في هذا الحوار، الذي تضمن تطرّقًا لماهية النص الشعري، ومشهديّتهُ في الساحة البحرينية، إلى جانب مستقبله، أكد قاسم على عددٍ من الأمور، أبرزها قوله: «ليس مثل حرية المخيلة الشعرية رافعة حية لتقدم الشاعر»، جاعلاً من المعرفة لازمةٍ ليكون الشاعر شاعرًا، بتأكيده «الشعر فقط يسعفنا عندما نتوفر على المرهبة والمعرفة»، مبيناً بأن الشعر «ضربٌ من تأمل الكائن في الحياة، وفي هذا التأمل يتجلّى الفعل الفلسفي العميق، دون كتابة النص الفجّ». لافتًا لحيوية الحسّ الشعري في أشكال التعبير الفني، مستدلاً بما كتبهُ الكاتب أمين صالح، عن «شعرية السينما»، مؤكدًا «سوف نجد الشعر في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والتشكيل». فما الشعر؟ هل يمكن أن يضبط وفق شروطٍ تضع حدودًا لما هو شعر، وما ليس كذلك؟ ماذا عنه على صعيد القراءة والشيوع، أهو في انحسار يكشفُ عنهُ تدني المقروئية، وإهمال الدواوين على رفوف المكتبات حتى تصفر أوراقها، وتعتق أغلفتها؟ ماذا عن وجوده وفاعليته في المشهد الثقافي، وعن دوره الذي لطالما لعبه؟.. ثم ماذا عن القصيدة التي يرى فيها البعض هذواً من الكلام المنضد دون معنىً أو مضمون؟ تلك أسئلةُ نستكشفُ أجوبتها مع الناقد البحريني جعفر حسن، الذي لطالما سبر أغوار النص الشعري تحليلاً ونقداً، باحثاً عن الجماليات التي تخلق لذة النص، وتأصل الوعي الجمالي فيه، لنرى كيف يرى ما آل إليه الشعر اليوم، في هذا الحوار: ] إن سؤال (ما تعريف الشعر؟) سؤالٌ تقليدي في طرحه، فلطالما عرف القدماء والمعاصرون الشعر، لكنّا نريدُ بهذا السؤال، سبر غور الناقد الذي لطالما شُغل بالنص الشعري وتتبع جمالياته، فما الشعر؟ وكيف توجزُ رؤاك حول هذا الفن الأدبي الذي لطالما شكل محتوىً يختزلُ المعارف والجماليات والرؤى والقيم...؟ - لعلّ الكثير من القراء اليوم يعرفون أن مسألة التعريف بحد ذاتها تركن إلى جهة في بداية تكون العلم، وتبدو مسألة تحديد مفهوم جامع شامل مانع للشعر أمر بلا طائل. ومع ذلك أننا نواجه في التاريخ العربي ربما بتعريفين حددهما النقاد مع بدايات النظر النقدي، ويشير أحدهما إلى كون الشعر كلام موزون مقفّى كما عند قدامة بن جعفر، وبه - أي التعريف - ثلاثة شروط فأولهما بديهي من كون الشعر من الكلام وهو فعل إنساني، والكلام يرتبط بفعل الجسد من حيث إخراج اللفظ، وثانيهما يضع الشعر في بوتقة قانون إيقاعي ضابط ومحدد بدقة يظهر في تتابع التفاعيل، وقد حددها الفراهيدي، وحاول تعريف الشعر صاحب نظرية العمود (المرزوقي)، ويبدو أن جل ما قام به المرزوقي كان يتركز على الشكل الفني وقليلاً ما لامس المعنى، وثالهما القافية - مع أنها كما يشير أبو العلاء ليست من العمود -، والقافية في ذاتها تبدو كقانون ناظم، يبدو أنه يحافظ بقوة على دائرية العمود، وتعمل القافية على كل الشعر الموزون حتى شعر التفعيلة في بعض الأحيان لتعيده تدريجياً إلى العمود، ويمكن نظم الكلام دون أن يكون شعرًا، كما نرى في ألفية بن مالك وغيرها، وكلما ذهبنا في مسيرة الشعر والنقد كلما ظهرت لنا مشكلات في التعريف لا تكاد تنتهي. ولعلّ التعريف الآخر للشعر نجده عند ابن سينا والفارابي، والذي يركز على أن الشعر هو كلام تخيلي، ولعلّ أصول هذه النظرة نجدها ممتدة حتى الجاحظ، وعلى الأرجح أن هذا التعريف جاء مع تأثيرات النظر العقلي اليوناني، ويظل التعريف مرتبطًا بالنظرة الأفلاطونية في أن البلاغة فعل الجسد، أما المعنى فيقع في الروح ضمن الثنائية الأفلاطونية المشهورة، وقد ذهب هذا التشقيق العقلي الثنائي إلى تصور التشبيه وأركانه الأربعة، ومن ثم تصور الاستعارة كما وردت في كتب القدماء. ولكن هل قبضت هذه التعاريف على جوهر الشعر، لا أعتقد ذلك. ويبدو أن الأمر قابع في مساحة مازالت مجهولة لأسباب متعددة ومعقدة، منها أن الشاعر قد ورث العقل السحري للإنسان وحوله إلى عقل شعري له وظيفة مختلفة عن وظيفة ساحر القبيلة (وضاحها، وطريفتها، وسجاعها، وكاهنها)، وهي أمور لا تخضع للتجريب ولكنها تتماشى مع التأمل والحدس. وما زالت الشعرية مشغولة بأدبية الأدب في النظرية الأدبية، ومازال البحث جاريًا عن مكنونات الشعر التي لا يبدو أنها يمكن أن تنفد على الرغم من إضافة الكثير من الأمور إلى الشعرية (الحدس، الرؤى، الدهشة...الخ). وقد أدلى كبار الشعراء العرب وغيرهم بدلوهم في العصر الحديث ولكنهم لم يستنفدوا مكنونات الشعر. ] في ظل التطورات الشعرية، وارتباك المتلقي وتوجسه من إطلاق مسمى قصيدة على بعض أشكال الكتابات، خاصة مع ظهور أشكال أخرى للقصيدة غير المعتادة بقافيتها.. فما هي الاشتراطات التي تعتقدونها شروطاً واجبة الوجود في القصيدة، لنطلق عليها مسمى قصيدةً شعرية؟ - إن شروط الشعر، تعني الضوابط.. وبرأيي لا يمكنُ وضع ضوابط للمبدعين، فهم منشغلون بكسرها وتجاوزها. انظر لترى كيف أمكنهم تشظية عمود الشعر على جبروته، وخلقوا قصيدة التفعيلة، بدايةُ من البحور النقية، ثم رُكبت البحور بطرق مختلفة متمازجة، وقد خرجوا من فعل الكلام إلى اللغة برحابتها، وحتى اللهجة الدارجة أُدخلت في التفعيلة، بينما نمت قصيدة النثر، وامتدت على أشكالٍ متعددة. ويبدو أن المستقبل واعد بالدهشة التي لا تتوقف، ولعلنا نرى أنّ أقصر الطرق للتمييز بين ما هو شعر وغيره، كامن في نظرية الأجناس الأدبية التي تقول بالقصدية الواعية في الاختيار القرائي والكتابي بين الشعر وغيره، وتلك الذائقة التي تشير إلى نوع الأدب الذي نقرأه، سرداً كان أم شعراً. كما أن المسألة تزداد صعوبة في الجمع بين قمم الشعر وقيعانه، جيده ورديئه... إلخ. ] في زمنٍ بات يطلقُ عليه بعض النقاد والمطلعين بأنهُ «زمن الرواية»، وذهب البعض للقول بأن الرواية أضحت (ديوان العرب)، في هذا الوقت، يعتقد الكثيرون بأن الشعر خبى وأضحى جنساً أدبياً بلا مريدين.. فهل هو كذلك؟ وما الذي تبدل ليصير الشعر هامشاً رغم مركزيته في الثقافة العربية، أهو تبدلُ أجيالٍ وبالتالي تبدلُ ذائقة، أم ماذا؟ - نعم، هناك من يكتب عن زمن الرواية، وتلاشي الشعر، وموت النقد، وموت المؤلف، ونهاية التاريخ وغيرها، وهي دعوات تظهر في فترة الأزمات العامة، ونحن نشهد تغول العولمة وقطبيتها الوحيدة والتي بدأت تنهار في أماكن عديدة بنظريتها عن الفوضى الخلاقة. وقد تركت العولمة آثارًا عميقة في الثقافة العربية وغيرها من الثقافات التي هيمنت عليها، ويشير البعض إلى أن الرواية هي ابنة البرجوازية التي صارت متوحشة في نسخة العولمة، وليس غريباً أن نجد قدرة الرواية على التحول إلى سلعة من خلال تغيير علاقات المتعاملين في السوق، وارتباط بعضها بالسينما، والألعاب الإلكترونية الرائجة، وتنحي الشعر الذي يقاوم التحول إلى سلعة، وذلك مع ضرب المراكز الحضارية في الوطن العربي، والعمل بقوة على هدم القومية والوطنية، ونشر العولمة مكانها (عولمة السلعة) وعولمة مراكز العمل وعلاقاته، ولكن معظم ذلك ظل خارجًا عن بلاد المركز. والشعر يشتغل في اللغة التي هي من مكامن ثقافة الأمة وتمايزها القومي. بالإضافة إلى تحوّل الشعر من كونه مُنشدًا إلى القراءة الفردية في الأمة التي تنتشر بين إفرادها الأمية. ويبدو أننا لا نجد مثالاً واضحًا على طغيان جنس أدبي على آخر حتى يخرجه من الساحة. صحيح، أننا شهدنا تغيرات في الجنس الأدبي نفسه، وشهدنا موت جنس سردي مثل المقامة، ولكن قلما يموت جنس أدبي بفعل جنس آخر. ولكن تحولات الجنس أو تحجره هي التي تبقيه بعيداً عن الساحة ولعلها تفرض موته إذا لم يلبِّ الحاجات الجمالية للفرد في داخل الثقافة ذاتها. ] يرى بعض المطلعين بأن العديد من القصائد اليوم، باتت تفتقرُ للمعنى، ولا تعدو عن كونها كلمات منسقة على شكل أبيات شعرية، فيما لا تحمل أي معنىٍ أو مضمون.. فهل بات بعضُ الشعر بلا معنى ولا مضمون؟ أم هو قصور في المتلقي لهذه القصائد، وقلةُ صبر في تبصرها واستخلاص معانيها وتأملها؟ - سنقع هنا حتمًا في ثنائية المبنى والمعنى، وهي احد الثنائيات الحاكمة للثقافة العربية منذ عصرها الوسيط حتى عصر ظلماتها الحالي في ثقافتنا، وبدون التوسع في الموضوع، نرى أن الشعر يشتغل على ربط العلاقة بين المتباعدات، ولعلنا نعرف أن البعض يشير إلى أنه من الإبداع ربط كلمتين لم ترتبطا من قبل، مما يجعل طبيعة الشعر تخاطب في المتلقي مخيلته لا فهمه، ولكن الفرد عندنا يجد نفسه مجبرًا على البحث عن المعنى المعتاد عليه في حياته اليومية، وذلك أن التجربة اليومية للفرد تشير إلى الفهم، بينما يُبنى الشعر على التأويل بتحريك المخيلة. ولعلّ بعض النقاد يشيرون إلى أن البحث عن المعنى في الشعر يفسد تذوقه، كما أن التعليم متركز على عمود الشعر، وبالتالي يرسخ البلاغة القديمة وصورها البسيطة التي تخلت عنها الشعرية الحديثة، وعندما نبحث عن تلك البلاغة في الشعر الحديث نفشل تمامًا. مع أننا نجد في النهاية أي عبارة ستحتوي على مبنى سياقي تركيبي يدل على معنى ما، ولكن هذا المضمون في الشعرية مكان المعنى، ربما بات متعددًا بشكل مربك تحلّ محلّه إيحائية الصورة الفنية. وعندما نحاول أن نستخلص من الصورة الفنية معنى ما (تداولي) دائمًا، وفي كل الأحيان، فإننا بذلك نكف عن التواصل مع العبارة الفنية، ذلك لأننا سنتوقف عن استخدام مخيلتنا لاستجلاء الصورة المتشكلة أو الحالة العاطفية التي تضعنا فيها الصورة الجزئية أو في تلك الحالة التأملية التي تضعنا فيها الصورة الكلية في القصيدة، ونحن بآلاتنا القديمة نحاول لي رقبة الصورة الفنية حتى تصبح عبارة تداولية، لنجد فيها ما نجده في كلامنا العادي اليومي التداولي من معاني تتعلق بالغائية الحياتية اليومية، لكن الشعر يتأبى على هذه المسألة، وبات يكف عن استخدام البلاغة القديمة، وعندما نفشل فأننا نقول بأن الشعرية العربية باتت غامضة، وهي بالمناسبة تهمة كبيرة كانت منتشرة ضد الشعر الحديث في السبعينات، وربما ما زالت تكرر وتعاد كالمسبحة في وقتنا الحالي.
مشاركة :