شيطنة الفيديراليّة وعداء اللامركزيّة

  • 4/18/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تتعمّد غالبية النخب السورية المثقفة السير على مبدأ عدم كسب الصديق، وتوجيه البلاد نحو مزيد من التفرقة المجتمعية، على عكس ما تتطلبه الظروف الحالية، من ضرورة التفاف والتحام في البنية الشعبية للوصول بالبلاد الى الاستقرار، ثم العمل على بناء دولة ديموقراطية تتماشى مع التضحيات التي قدمها أبناء هذا البلد. فسورية الواقفة على أنقاض الحرب اليوم لم تعد تحتمل آلاماً أكثر، كما لم تعد تستطيع تقبل مفاهيم العاطفة الاتكالية التي راهن عليها السوريون خلال ثورتهم، وانجرت إليها المعارضة السياسية، بدلاً من الاعتماد على العقل والمنطق في التعامل مع الأزمات السياسية، فمطلبا الحرية والكرامة اليوم استُبدلا بالبحث عن لقمة عيش كريمة، نتيجة التدمير والتهجير المستخدم من النظام، الذي اختار آلة القتل منذ اليوم الأول، إضافة الى عدم وفاء المجتمع الدولي والدول الإقليمية بوعودها للسوريين. أخطاء المعارضة السياسية لم تتوقف عند عدم استطاعة فهم براغماتية الواقع، بل أيضاً عدم التوصل الى وضع رؤية مستقبلية لسورية، وعدم قراءة الخارطة السورية من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والسكانية، ما شكّل نقطة ضعف تعتبر في مثابة «كعب أخيل» في جسد الثورة السورية، وهو ما شتّت جغرافية بلد تحكمه اليوم سلطات مختلفة ومتعددة، يرى كل منها نفسه صاحب الحق في الحكم، وساهمت في فصل جغرافية المدن عن بعضها البعض، حتى بات التواصل بين الكثير منها شبه مستحيل، في مقابل إصرار العديد من المثقفين السوريين الجالسين خلف «وسائل التفرقة الاجتماعية» على زرع الأوهام بأن العقلية الأحادية والمركزية قادرة على جمع السوريين وتوحيدهم، متناسين حالة التفتت التي يعيشها السوريون اليوم أساساً. المثقفون السوريون ونشطاء الثورة ممن اعتادوا التمسك بهوامش المواضيع وترك المضامين، ينقلون اليوم سهام الحرب عبر العالم الافتراضي نحو الأكراد السوريين ويتهمونهم بالعمل على تقسيم البلاد والدعوة الى فيديرالية مستقبلية ولا مركزية. هذا الصراع الذي بدأ يطفو على السطح منذ معارك كوباني- عين العرب بين الأكراد و «داعش»، حمّل الأكراد الكثير من الذنوب، بسبب دعم قوات التحالف الدولي والولايات المتحدة لهم، وكأن «مثقفي النخبة» يتناسون عذابات أهالي المنطقة الذين نزحوا وشُرِّدوا وباتت مدينتهم مجرد أبنية مهدمة فوق أرض تغيرت معالمها وغير قابلة للعيش فيها. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل ازداد الاحتقان مع تحرير المقاتلين الأكراد أي منطقة، ورافقه توجيه اتهامات للأكراد لم تخلُ من التخوين ومحاولة تشويه صورتهم لدى الرأي العام السوري، حتى أن هذه النخبة لم تستطع تشكيل مثل هذا الرأي العام ضد النظام منذ بدء الثورة. والمتابع للصراع سيعتقد، لوهلة، أن عدم انتصار الثورة السورية، أو تأخير سقوط النظام، سببه الأكراد. لتوجيه العداء ضد الأكراد، بالطبع، مسوغات ومسببات داخلية وخارجية، أبرزها الدفع بهذا الاتجاه من جانب دول إقليمية، لا تبخل جماعات من المعارضة السورية في المساهمة به أيضاً، وهو أمرٌ مألوف في حكم أن القرار لم يعد بيد السوريين، فواهمٌ من يعتقد أن مستقبل سورية لم يعد بيد دول إقليمية أو عربية أو دولية. لكن أضعف الإيمان ما يجب العمل عليه من السوريين في ما بينهم، هو محاولة وضع رؤية متفق عليها بين جميع الأطراف لمصلحة البلاد، تتضمن عدم تهميش أي طرف، من خلال التنسيق المتكامل الذي يَشعُر كل فرد سوري فيه بأنه حصل على حريته وكرامته، وأن حقوقه ستكون مصانة، على أن يشمل ذلك كل المكونات والجماعات الأهلية. اليوم، لكسب الوقت، يستطيع السوريون البدء بالاتفاق من المفاوضات الحالية التي أقرها المجتمع الدولي، والتي تؤكد أن لا حل في سورية إلا بالتفاوض والتوافق السياسي، وأن يكون من ضمن التوافقات اعتبار الأكراد جزءاً أساسياً من هذا الحل، خصوصاً أنهم المكون الثاني في البلاد، فالعمل على كسب هذه الشريحة الواسعة وعدم التفريط بها، سيكون في مصلحة سورية ككل، ما يتطلب الابتعاد من شيطنة الأشكال المطروحة وعدم النظر إليها على أنها دعوات لتقسيم سورية وتفتيتها، كما كان يروّج النظام. في كتابه «الفيديرالية وإمكانية تطبيقها كنظام سياسي»، يقول الكاتب محمد عمر مولود، وهو رئيس مجلس شورى إقليم كردستان العراق، إن النظام الفيديرالي، بخصائصه ومبادئه، يختلف عن الكونفيديرالية والحكم الذاتي واللامركزية الإدارية، كونه يحقق أهدافاً مختلفة في آنٍ واحد، فبينما يؤدي إلى إشباع خصوصيات التعدديات المختلفة داخل الدولة بتمتعها بقدر كبير من الاستقلال الذاتي في أقاليمها ومشاركة في السلطات المختلفة على مستوى الاتحاد، فإنه يحافظ في الوقت ذاته على وحدة الدولة، وزيادة هيبتها وانتعاشها اقتصادياً. إن نخبة كبيرة من المجتمع السوري تصرّ على عدم فهم مفهوم الفيديرالية واعتبارها بداية تقسيم، على رغم أن هؤلاء أنفسهم يقوّمون تجارب دول عالمية عدّة ويشيدون بحضارتها، وهي دول تعتمد النظام الاتحادي الفيديرالي. المفكر السوري جاد الكريم جباعي، يعتبر أن «اللامركزية ليست مجرد استجابة لتعدد القوميات والإثنيات والأديان والمذاهب والمرجعيات الثقافية، بل هي خيار ديموقراطي بالفعل، حتى في مجتمع لا يتوافر على تعدد وتنوع، كالمجتمع السوري أو العراقي أو غيرهما». ويضيف أن المركزية التي تنحل اليوم في مقولة السيادة الوطنية أو القومية، ولا فرق، هي نوع من لاهوت علماني، لم ينقطع عن ماضيه القريب، ويحمل جرثومة التسلّط. «كل مركز يقيم هامشاً، وكل متن يقيم حاشية، وكل سيادة تقيم تبعية أو عبودية ولا فرق. هذا في المبدأ. في السياسة ثمة مسألة كردية في سورية، ومن حق الأكراد أن يعيشوا أحراراً مستقلين في إقليمهم و/ أو يقيموا دولتهم المستقلة أسوة بغيرهم من الجماعات السياسية والشعوب». ويرى الجباعي أن اللامركزية حل ديموقراطي لهذه المسألة المزمنة، من الأفضل أن يتبناها العرب السوريون قبل الأكراد السوريين، من أجل سورية ديموقراطية وموحدة بالفعل. إن تخوّف السوريين من رسم شكل سورية المستقبل ومحاولة شيطنة مفهومي الفيديرالية واللامركزية، ينحدر من ثقافة غرسها فكر حزب البعث في عقول الأجيال السورية المتعاقبة. لكن، إذا كانت المعارضة السورية ترى نفسها مختلفة عن فكر النظام، وأن هدفها يتجه نحو سورية ديموقراطية تمنح السوريين كافة حقوقهم وحريتهم وكرامتهم، عليها عدم الهروب من أي استحقاق شرعي تكفله القوانين الدولية وتصونه. فالثورة السورية التي خرجت لتغير المفاهيم السابقة، يجب عليها العمل على عكس حالة الماضي، فلا ديموقراطية وحقوق مجزأة، ولا حلول مقبولة في إطار تحريم أي مكون أو جماعة أو فرد سوري حقوقه الطبيعية.

مشاركة :