منذ عامين، سأل صحافي أمريكي الرئيس أوباما عن رأيه فيما إذا كان يرى خطورةً أكبر في التطرُّف السنِّي أو التطرُّف الشيعي، طرح أوباما وجهة نظر لا يمكن الهروب من دلالاتها الإستراتيجية الخطيرة على مستوى الرؤية السياسية، وعلى مستوى القرارات العملية التي يُمكن أن تُبنى عليها. ذلك أن الرجل تهرَّب من الإجابة المباشرة على السؤال، لكنه أجاب عليه بطريقة مُعبِّرة جداً قال فيها: «ما سأقوله هو أنَّك إذا نظرتَ إلى السلوكيات الإيرانية فستجد أنها استراتيجية، ولا تأتي على شكل ردود الأفعال. إن لديهم رؤية متكاملة للعالم، وهم يُدركون مصالحهم، ويستجيبون لمعادلة الأرباح والخسائر.. إنهم دولة كبيرة وقوية ترى نفسها كلاعب مهم على المسرح العالمي». التخطيط الاستراتيجي الحقيقي، البعيد عن ردود الأفعال، والمنبثق من المصالح، ومن امتلاك رؤيةٍ متكاملةٍ للعالم؛ هو مدخل الفعل السياسي لمن يرى نفسه لاعبًا مهمًا على المسرح العالمي. لسببٍ ما، أعطانا الرئيس الأمريكي هذه (المحاضرة) بشكلٍ صريح، لكن مضمونها يبقى منسجمًا مع واقع العلاقات الدولية في عالم اليوم. رغم التحديات، يُحاول العرب منذ عامٍ مضى، بقيادةٍ سعودية، بناء منظومة سياسيةٍ إقليمية وعالمية تتمحور حول ذلك العنصر تحديدًا. والمفارقة، أنه بعد عام من اليوم، حين يكون العرب ماضين في مواجهة التحديات، سيكون أوباما خارج البيت الأبيض يستمتع بتقاعده كرئيسٍ سابق. الأهم في الموضوع، كما تشير كثيرٌ من المعطيات، أن رؤية أوباما الخاصة للسياسة الخارجية، أو ما تبرعَ جولدبرغ بصياغته كـ(عقيدة)، ستكون بدورها شيئًا من الماضي، لا تتجاوز علاقة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية به إلا كأرشيفٍ على أحد رفوف مكتبةٍ خاصة، تحوي متحفًا، تُبنى لكل رئيسٍ أمريكي بعد انتهاء ولايته (في الحقيقة، يعمل أوباما بحرص على تنفيذ الفكرة منذ زمن، وبتكلفة تراوح بين 800 مليون إلى مليار دولار حسب مصادر حكومية، مقارنةً بـ300 مليون دولار، تكلفة متحف ومكتبة جورج بوش الابن). من هنا، وخروجًا من ملابسات اللحظة الراهنة، وانسجامًا مع دلالات ما هو (استراتيجي) في التخطيط والرؤية، يُضحي طبيعيًا تركيز التفكير في عناصر أخرى تساعد العرب على التعامل مع أمريكا بعد أوباما. يمكن الإشارة، بدايةً، إلى حقيقةٍ تتمثل في أن اختزال مداخل وقنوات العلاقة بين الطرفين في الجهات الرسمية والحكومية يُصبح أحيانًا جزءًا من المشكلة. ذلك أن أي علاقةٍ صحية بين جماعتين حضاريتين ضخمتين بهذا الحجم والتأثير يجب أن تكون مبنيةً في جانبٍ أساسيٍ منها على جهد ونشاط المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات والأبحاث والمؤسسات التعليمية. من الضرورة بمكان، ثانيًا، التأكيد على انتقال العلاقة بين الطرفين إلى درجةٍ أعلى من الندية، تقوم على الإدراك المتجدد لقوة وحجم الأوراق التي يملكها الطرف العربي، والخليجي بشكلٍ رئيس، في خضم عملية (التدافُع) التي تحكم مجال العلاقات الدولية. أما العامل الرئيس في الموضوع فيكمن في ظهور (الإرادة السياسية) لاستعمال تلك الأوراق، وفي التعبير عن تلك الإرادة عمليًا، وليس التلويح بها نظريًا فقط. وإذ نُدرك، كعرب، كل الحقائق المتعلقة بقوة أمريكا ودورها المحوري والقيادي في العالم، ونتعامل مع تلك الحقائق بعقلانيةٍ وموضوعية. لكننا ندرك أيضًا، بشكلٍ متزايد، أن ثمة ساحات ومداخل للتعامل الندي المذكور هي من صُلب طبيعة النظام الدولي، وفي مجال العلاقات مع أمريكا تحديدًا. المفارقةُ أن أمريكا نفسها تعرف هذه الحقيقة بكل وضوح، وتبني سياساتها الخارجية بناءً عليها. وأخيرًا، من الواضح أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية أدركت، منذ بدء (عاصفة الحزم)، أن العاصفة المذكورة لا تتعلق باليمن فقط، بل بالمنطقة بأسرها. وأنها عاصفةٌ تهدف لإحداث نقلةٍ في العلاقة معها لتصبح علاقة نديةً قائمةً على وجود (الإرادة): المرادف الأقرب لـ(حزمٍ) أحدث اختراقات في السياسات العربية غير مسبوقة، ولم تكن أمريكا، بحكومتها ومراكز دراساتها وأبحاثها، تتوقعُ حصولها. هكذا هي أمريكا، وهذه هي (واقعيتُها). يفرض (الواقع) نفسه عليها، فتركض لاستيعابه ومحاولة فهمه. وهو ما ستؤكده مؤسسة السياسة الخارجية بشكلٍ يختلف جذريًا عن رؤية رئيسٍ يحاول أن يترك لنفسه ذكرًا في التاريخ آخرَ أيامه في البيت الأبيض. في هذا الإطار، يأتي استمرار الحزم المذكور، بكل مساراته، وخاصةً في سوريا الآن، ليصبح أهم عاملٍ في إقناع تلك المؤسسة، المتشككة في رؤية أوباما وقراراته أصلًا، بضرورة بناء علاقةٍ استراتيجية جديدة مع المنطقة، بواقعية، وبعيدًا عن أوهام المجد الشخصي على جدار الذكريات. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :