مصير العرب مع هزيمة التنوير الإنساني في سوريا | وائل مرزا

  • 6/4/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في مقدمة كتابه «أساطين الفكر» الذي يتحدث عن عشرين فيلسوفاً ساهموا في صناعة القرن العشرين، يتحدَّث الكاتب والمفكر الفرنسي روجيه - بول دروا عن المفارقة بين الأمل الذي أثارته ثورة الثقافة في أوروبا مع نهايات القرن التاسع عشر بخصوص مستقبل البشرية في مقابل الواقع البشع الذي فرض نفسه عليها، عملياً، خلال القرن العشرين. «في النهاية»، يقول المؤلف: «اعتقدنا، من عصر الأنوار إلى عصر العلوم والصناعة، أن شعباً يُطورُ المعارف والفنون والتقنيات، يُفضي إلى تقدمٍ إنساني، وأخلاقي، واجتماعي، وسياسي. ها هنا كان الأمل الكبير: كلما أصبح البشر علماء، ازدادوا تحضراً. فهم مُسالمون بِحُكمِ ثقافتهم. الحرب العالمية الأولى هي التي بددت هذه القناعة: دمّرت أوروبا نفسها في خنادق الحرب، بتكلفة ملايين القتلى، على حين أنها كانت تُعد الأكثر تحضراً، وثقافةً، وعلماً، وفلسفة من سائر مناطق العالم. لقد أكد صعود النازية، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، أن كون المرء مثقفاً لا يمنع الهمجية. والشعبُ الأكثر فلسفةً في أوروبا -شعب كانط، وهيغيل، وشيلينغ، وفيورباخ، وشوبنهاور، ونيتشه، وكثيرين آخرين- هو الذي سمح باللا إنسانية والجهل.. حيثما التفتنا، لا نرى إلا مناظر الخراب.. العلوم لا تكفﱡ عن اكتشاف مجالات جديدة. والتقنيات لا تتوقفُ عن صُنع سلطات جديدة. أما الشموليات والمجازر الجماعية فتُدمرُ السياسة والأخلاق». صدر الكتاب بنسخته الفرنسية عام 2011، قبل أن يشهد العالَم، متفرجاً، على مدى أكثر من خمس سنوات، مأساةَ لن يُكتب فقط أنها الأكبرُ في هذا العصر، بل أنها كانت شهادةً عملية على موت كل ما له صلةٌ بالتنوير الإنساني. لا تنحصر قراءة المشهد السوري، استراتيجياً، في تفاصيله الداخلية أياً كانت، وإنما تمتد لتُصبح إعلاناً على هزيمة منظومة الأخلاق والثقافة العالمية، وكل ما له علاقة بها من فنون وآداب. تستطيع المنظومة المذكورة المعاصرة أن تكذب على نفسها بالتأكيد. يستطيع أهل تلك المنظومة أن يكذبوا على الناس، ويأخذوا أبصارهم بعيداً عما يجري في سوريا، باعتبار ما يجري فيها حَدثاً هامشياً لا يتوقف معه التاريخ. كيف لا، وهم يُؤلِّفون المسرحيات ويُنتجون الأفلام، ويكتبون الشعر والروايات، ويرسمون وينحتون ويُغنون في كل مكانٍ آخر في العالم. بل إن الأمر ينجح عادةً في التاريخ البشري: أن يتم الهروب من علامات احتقان النظام الدولي، حتى تنفجر مشاكل الاحتقان المذكور بالجميع في نهاية المطاف. هذا ما يتحدث عنه الكاتب الفرنسي تماماً. لا علاقة مباشرة، مثلاً، بين ما يجري في سوريا وبين ما يمكن أن يحصل في أوروبا، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، في حال انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي بقرارٍ شعبي نتيجة استفتاءٍ قادمٍ بعد أسابيع. لا علاقة مباشرة أيضاً بين الحدث السوري وما يمكن أن يحصل في أمريكا، وبينها وبين العالم، في حال انتخاب شخص مثل دونالد ترامب رئيساً لأقوى دولةٍ في العالم، وهو أمرٌ بات احتماله 50% على الأقل حتى الآن. ثمة سيناريوهات كارثية منشورة يطرحها المختصون بالتفاصيل، لكنها تنزوي لأن الوجه الآخر من هزيمة أهل النظام الأخلاقي والثقافي العالمي يتمثل في قدرة (السياسي) على تهميشهم بشكلٍ متزايد، إن لجهة إدراك دلالات مثل تلك الأحداث ابتداءً، أو لجهة البحث عن سبل مواجهتها قبل أن تؤدي إلى الفوضى الشاملة. ماذا يعني، مثلاً، أن تكون الأولوية الآن في البرلمان الألماني لقرارٍ يتعلق بأزمةٍ حدثت منذ قرنٍ من الزمان، في حين يتجاهل البرلمان نفسه أزمةً أكبرَ وأوضح، تجري منذ سنوات تحت أنظار أعضائه؟ هكذا يهزم السياسي منطق الأخلاق والثقافة، وهكذا يسخر من أهلها، وهكذا يُعلن اهتراءها، ليزرع بذور عالمٍ بدون ثقافةٍ وأخلاق. وهؤلاء ممثلو «الشعب الأكثر فلسفةً في أوروبا» حسب بول دروا، فماذا نتوقع من الآخرين؟. وحدهُ المشهد السوري الراهن يُعبر بوضوح عن المأزق الإنساني، الراهن والقادم، من خلال وقائع وأحداث لا يُفترض أن يسمح بها نظامٌ أخلاقي وثقافي عالمي، لو كان موجوداً حقاً: ظاهرة اللاجئين وتأثيرها في العالم، اتساع دوائر التطرف والإرهاب وتغذية أسبابها، الحروب الممكنة، إقليمياً ودولياً، مع أي خطأ، ممكنٍ دائماً، في الحسابات. هنا تحديداً يظهر دور العرب، لأنهم يرون المشهد بكل سلبياته من جانب، ولأنهم سيكونون الحلقة الأضعف والأسرع تأثراً بأي فوضى قادمة تبدو سوريا مفصلاً رئيساً في حدوثها. ولئن كانوا لا يملكون رفاهية التفكير في إنقاذ التنوير الإنساني، فإن جوهر مصيرهم ووجودهم بات على المحك بحيث يضحي عدم الفعل في سوريا، بحد ذاته، رفاهيةً لا وقت لها بجميع الحسابات. waelmerza@hotmail.com

مشاركة :