على عكس التوقعات السابقة، تمكن اليسار الفرنسي من إزاحة اليمين المتطرف عن الواجهة السياسية في أعقاب الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية. فبعد التئام اليسار تحت راية "الجبهة الشعبية الجديدة" بقيادة جان لوك ميلانشون، زعيم "فرنسا الأبية"، توقع الجميع تصدر "التجمع الوطني" للانتخابات. لكن المفاجأة حدثت، حيث تمكن اليسار من تبديد حظوظ مارين لوبين، واحتل المركز الأول في الانتخابات التشريعية بحوالي 180 مقعدًا في الجمعية العامة. في هذا السياق، نستضيف في فقرة "ثلاثة أسئلة لهذا الأسبوع" الخبير السياسي ومحلل العلاقات الخارجية والشؤون الاستراتيجية، هشام معتضد، لفهم تداعيات هذا التحول في عقلية الناخب الفرنسي وإمكانيات التحالفات في الأيام القادمة. ما هو في نظرك السبب وراء هذا التغيير الجذري في الخريطة الانتخابية؟ يمكن قراءة هذا التغيير من المنظور السيكولوجي للناخب الفرنسي الذي عبر مرة أخرى ضمن هذا التمرين الانتخابي عن ارتداد سياسي في سلوكه الانتخابي الذي عطل تقنيات كل التكهنات الواردة و أربك منطق الديناميكية السياسية المرتبطة بالمناخ الانتخابي و السياق السياسي لفرنسا. هذا التحول الشبه راديكالي في نتائج الإنتخابات، بين نتائج الجولة الأولى و الثانية، يشكل إستثناءاً في العملية الديمقراطية المرتبطة بالتصويت، لأن القاعدة هي تثبيت، أو على الأقل الحفاظ على نفس التوجه، بين نتائج الجولتين، لكن ديناميكية التصويت في اللعبة و السياسية و سيكولوجية الناخب ليستا علوم دقيقة و لكن مسار يخضع لعدة حسابات معقدة و تفاعلات مركبة تتيح المجال لجميع النتائج الممكنة و الغير منطقية. مع الأخذ بعين الاعتبار التباينات والتوترات التي تميز العلاقة بين ماكرون وميلانشون، هل من الممكن أن نشهد الأخير رئيسًا للوزراء؟ و هل ستنجح "الجبهة الشعبية الجديدة" في إقناع التيارات الثلاثة، يسارًا ويمينًا وتحالف الوسط، بالالتقاء تحت سقف واحد؟ لا يمكن التكهن بسهولة حول التوافق السياسي الذي سيتشكل على إثر هذه النتائج الانتحابية، نظرا للمعاكسات السياسية الحادة التي رافقت الحملات الانتحابية، خاصة بين قيادات تحالف اليسار و معسكر الرئيس الفرنسي، و لكن أيضا للمواقف الراديكالية التي تبناها كل من ميلونشون و ماكرون بخصوص استحالة بناء تحالفات بين القوتين السياسيتين. كل السيناريوهات محتملة، من إمكانية تقلد ميلونشون رئاسة الحكومة إلى إجراء انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، في نظري تدبير مرحلة ما بعد هذه النتائج الانتخابية أعقد من السياق الذي فجر إجراء الانتخابات نفسها، لأن إيجاد منصة توافق سياسي سيتطلب من مختلف الفرقاء الكثير من التنازلات السياسية والتدبير المركب لخريطة فرنسا السياسية التي ستشكل بوصلتها للمرحلة المقبلة. هل تعتقد أن الفائز الأكبر في هذه المعركة السياسية هو ماكرون؟ حيث تمكن بفضل ذكائه السياسي، من إبعاد اليمين المتطرف عن الرئاسيات الفرنسية ولو بشكل ضمني و شكلي؟ و هل تمكن من إبعاد بارديلي ولوبين عن سدة الحكم؟ لا أظن أن نتائج هذه الانتخابات تشكل قنصا إيجابيا بالنسبة لماكرون، خاصة بعد تراجع شعبيته إلى أدنى المستويات منذ أشهر، بقدر ما تحمل إشارات إيجابية و تعطي أمال مستقبلية لليمين المتطرف الذي فرض تواجده كقوة صاعدة، و التي قد تكون البديل الإستراتيجي للناخب الفرنسي في الاستحقاقات المقبلة، إن خفق تحالف اليسار بمعية معسكر ماكرون بإقناع الفرنسيين في المرحلة المقبلة أو فشلهم في إيجاد توافق سياسي لتدبير المرحلة. نجاح المرحلة المقبلة هو الكفيل بتأكيد نجاح إستراتيجية ماكرون في خوض الانتخابات مبكراً، لأن الناخب الفرنسي لن يكون له بديل سياسي في الاستحقاقات القادمة غير إعطاء فرصة لليمين المتطرف إن فشل تحالف اليسار و تجمع ماكرون في إخراج فرنسا من النفق السياسي الذي أتعب، ليس فقط المواطن الفرنسي، و لكن أيضا الديناميكية المؤسساتية لمختلف القطاعات الفرنسية التي تعاني منذ مدة من الهشاشة السياسية التي تعيشها البلاد.
مشاركة :