تتداخل السياسة والاقتصاد بشكل عميق، حيث يؤثر كل منهما على الآخر بطرق معقدة ومتبادلة. السؤال عن أي منهما يتبع الآخر، السياسة أو الاقتصاد، يتطلب فهماً دقيقاً لهذه العلاقة المتشابكة. تتنوع الأمثلة على هذه الديناميكيات من بلدان وأوقات مختلفة، مما يوضح مدى تعقيد العلاقة بين السياسة والاقتصاد. خلال فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات، كانت الولايات المتحدة تواجه واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في تاريخها. وصل معدل البطالة إلى 25 %، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير. استجابةً لهذه الأزمة، أطلق الرئيس فرانكلين روزفلت «الصفقة الجديدة» (New Deal)، وهي سلسلة من البرامج والسياسات الاقتصادية تهدف إلى إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق الاستقرار. وتضمنت الخطة الجديدة زيادة في الإنفاق الحكومي على البنية التحتية والمشاريع العامة مثل بناء الطرق والمدارس والمستشفيات، مما وفر وظائف لملايين العاطلين عن العمل. كذلك إنشاء مؤسسات جديدة مثل مؤسسة الضمان الاجتماعي والبنك المركزي الذي أُعطي صلاحيات أوسع لتخفيف الأزمات المصرفية وضمان استقرار النظام المالي. لتؤدي هذه السياسات إلى انتعاش تدريجي للاقتصاد الأمريكي، وتحسنت معدلات البطالة والنمو الاقتصادي. أما الصين تحت قيادة دنغ شياو بينغ قامت بتطبيق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية التي تهدف إلى تحويل الاقتصاد الصيني من نظام التخطيط المركزي إلى نظام السوق. حيث تم فتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الأجنبية وتم إنشاء مناطق اقتصادية خاصة لتجربة السياسات الاقتصادية الجديدة. والتحول إلى السوق أدى إلى تخفيف القيود على التجارة وتحفيز القطاع الخاص للمساهمة في النمو الاقتصادي. وأدت هذه الإصلاحات إلى تحقيق نمو اقتصادي مذهل، حيث زاد الناتج المحلي الإجمالي للصين بشكل كبير وأصبحت واحدة من أكبر الاقتصادات في العالم. وفي الثمانينيات، كان الاتحاد السوفيتي يعاني من تدهور اقتصادي شديد نتيجة السياسات الاقتصادية غير الفعالة والنفقات العسكرية العالية. وكان يعتمد على التخطيط المركزي والقرارات البيروقراطية، مما أدى إلى نقص في السلع الأساسية وتدهور الإنتاجية. ومع تزايد الدين العام والتضخم أدى إلى تدهور مستوى المعيشة وزيادة الاستياء الشعبي. ليسهم هذا التدهور الاقتصادي بشكل كبير في انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، حيث لم تعد الحكومة قادرة على تلبية احتياجات الشعب، مما أدى إلى تفكك الدولة إلى جمهوريات مستقلة. وفي أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، عانت الأرجنتين من أزمة اقتصادية شديدة. قامت الحكومة الأرجنتينية بالاقتراض بشكل كبير، مما أدى إلى زيادة الدين العام. لترتفع معدلات التضخم بشكل كبير، مما أثر على القدرة الشرائية للمواطنين. لتؤدي هذه الأزمة إلى اضطرابات سياسية واسعة واحتجاجات شعبية. وفي نهاية المطاف اضطرت الحكومة إلى إعلان الإفلاس وتغيير السياسات الاقتصادية بشكل جذري. أما الأزمة المالية العالمية في عام 2008م بدأت في القطاع المالي الأمريكي لكنها انتشرت بسرعة إلى باقي العالم. كانت بسبب انهيار سوق الرهن العقاري الثانوي والفقاعات العقارية. واستجابت الحكومات حول العالم بطرق مختلفة لإنقاذ البنوك وتحفيز الاقتصاد. فقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتطبيق خطة الإنقاذ المالية ما يسمى (TARP) التي أقرتها حكومة الرئيس جورج بوش الابن ومن ثم إدارة الرئيس باراك أوباما. وأُقر من قبل الكونغرس الأمريكي في أكتوبر 2008 كجزء من قانون الاستقرار الاقتصادي الطارئ. خُصص للبرنامج مبلغ 700 مليار دولار بهدف استقرار النظام المالي عن طريق شراء الأصول المتعثرة والديون المتعثرة من البنوك والمؤسسات المالية. وكان الهدف الرئيس هو إعادة الثقة إلى الأسواق المالية ومنع انهيار المؤسسات الكبرى التي كانت على وشك الإفلاس. بدأت إدارة الرئيس جورج بوش تنفيذ TARP في الأشهر الأخيرة من ولايته. وركزت وزارة الخزانة في البداية على شراء الرهون العقارية المتعثرة والديون المرتبطة بها من البنوك المتعثرة. مما ظهر سريعاً بتحسين الميزانيات العمومية للبنوك وضخت السيولة لمنع انهيار النظام المصرفي. وتضمنت الخطوات الأولية شراء أسهم في البنوك الكبرى لتقديم الدعم المالي المباشر، مما ساعد على استعادة الثقة في النظام المالي، ومع تولي الرئيس باراك أوباما منصبه في يناير 2009، استمرت إدارته في تنفيذ برنامج TARP ولكن بتوسيع نطاقه. بالإضافة إلى دعم البنوك، تم توجيه جزء من أموال البرنامج لدعم صناعة السيارات الأمريكية، بما في ذلك إنقاذ جنرال موتورز وكرايسلر، وتقديم الدعم لشركات التأمين مثل AIG التي كانت على وشك الانهيار. كما استخدمت إدارة أوباما أموال TARP لدعم برامج التحفيز الاقتصادي وتشجيع البنوك على استئناف الإقراض للشركات والأفراد لتنجح خطة TARP في منع انهيار النظام المالي الأمريكي واستعادة الثقة في الأسواق المالية العالمية. عبر الإجراءات التي تم اتخاذها من خلال شراء الأصول المتعثرة وضخ السيولة في البنوك. وبحلول عام 2014م استردت الحكومة معظم الأموال التي تم إنفاقها ضمن برنامج TARP، بما في ذلك الأرباح من الفوائد والأرباح. وكان استرداد الأموال دليلاً على فعالية الخطة في تحقيق أهدافها دون تحمل تكاليف دائمة على دافعي الضرائب. وكانت خطة الإنقاذ المالية (TARP) استجابة طارئة وحاسمة لأزمة مالية غير مسبوقة. على الرغم من الجدل الذي أحاط بها، نجحت الخطة في تحقيق هدفها الرئيس: باستقرار النظام المالي الأمريكي ومنع انهيار اقتصادي أوسع. وتظل TARP مثالاً على كيفية تداخل السياسة والاقتصاد في مواجهة الأزمات الكبرى، مع تحقيق نتائج إيجابية على الرغم من التحديات والانتقادات. وهذه السياسات ساعدت في استقرار الأسواق المالية والاقتصادات الوطنية، لكنها أدت أيضاً إلى نقاشات واسعة حول دور الحكومة في الاقتصاد وكيفية منع حدوث أزمات مماثلة في المستقبل. وفي أعقاب الأزمة المالية العالمية، واجهت عدة دول في منطقة اليورو، مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا، أزمات ديون سيادية. واستجابة لهذه الأزمات تطلبت تعاوناً سياسياً واقتصادياً بين دول الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى تطبيق سياسات تقشفية صارمة وبرامج إنقاذ مالية. لتؤدي هذه السياسات لتأثر بشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية والسياسية داخل تلك الدول وأثارت جدلاً واسعاً حول فعالية هذه الإجراءات ومدى تأثيرها على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. في العديد من المناطق الإفريقية، كانت النزاعات على الموارد الطبيعية مثل الماء والعشب تشكل جزءاً كبيراً من الصراعات السياسية والاقتصادية. في بداية القرن الحادي والعشرين، شهد إقليم دارفور في السودان نزاعاً دموياً كان جزءاً كبيراً منه نتيجة الصراع على الموارد الطبيعية، مثل الماء والعشب. والتغيرات المناخية أدت إلى فترات جفاف طويلة، مما أثر على توفر الماء والعشب. هذا النقص دفع المجموعات البدوية والرعوية إلى النزاع على الموارد المحدودة. وتفاقمت نتيجة للتوترات العرقية والسياسية بين مختلف القبائل والجماعات العرقية. وبالتالي أدى النزاع إلى أزمة إنسانية كبيرة، مع مئات الآلاف من القتلى والملايين من النازحين. كما أدى إلى تدخل دولي ومحاكمات جنائية دولية لمسؤولين حكوميين متهمين بجرائم حرب. أما سد النهضة الإثيوبي والنزاع بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة يوضح كيف يمكن أن تؤدي المشاريع الكبيرة للبنية التحتية إلى توترات سياسية واقتصادية. مصر تعتمد بشكل كبير على مياه نهر النيل، وأي تغيير في تدفق المياه يمكن أن يؤثر على الزراعة والصناعة. وهذه النزاعات غالباً ما تتطلب تدخلات دبلوماسية وسياسية لحلها، وتؤثر بشكل كبير على العلاقات بين الدول المعنية واستقرار المنطقة. ولنعود إلى سؤالنا الاقتصاد يتبع السياسة أو العكس؟ وبعد استعراض هذه الأحداث العالمية والتاريخية نصل إلى أن العلاقة بين السياسة والاقتصاد هي علاقة تفاعلية ومعقدة. والسياسات الحكومية يمكن أن تؤدي إلى نتائج اقتصادية محددة، وهذه النتائج بدورها تؤثر على القرارات السياسية المستقبلية. ومن المستحيل تقديم إجابة قاطعة حول ما إذا كانت السياسة تتبع الاقتصاد أم الاقتصاد يتبع السياسة، حيث إن العلاقة بينهما متشابكة وديناميكية. والمهم هو فهم أن هذه العلاقة التفاعلية تتطلب استراتيجيات مرنة وفهم عميق لكلا الجانبين لتحقيق توازن واستقرار يضمن نمو اقتصادي وسياسي مستدام.
مشاركة :