يفتقر المناخ العام في مصر إلى قنوات الحوار والتواصل بين الحكومة والمجتمع. ومن الغريب أن الصحافيين يعانون هذه المشكلة، على رغم اقترابهم من مؤسسات الحكومة ودوائر صنع القرار، إذ تثور بين الطرفين أزمات في شأن دقة وصدقية ما ينشر في الصحافة، وتجاوز الصحافيين بعض حدود واعتبارات الأمن القومي والحرب على الإرهاب. ويدافع الصحافيون بدورهم عن أنفسهم بأن مسؤولياتهم المهنية تفرض عليهم المتابعة والنشر، احتراماً لحق الجمهور في المعرفة، كما أن صمت الصحافة يعني فتح المجال لانتشار الإشاعات أو انتقال الجمهور لمتابعة الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي ومن قنوات وصحف أجنبية. ويشكو الصحافيون عادةً من الظروف الصعبة التي يعملون في ظلها، إذ لم تفعل مواد دستور العام 2014 في شأن إعادة هيكلة الإعلام وإصدار قانون حق الحصول على المعلومات. والحقيقة أن غالبية المشكلات والأزمات بين الطرفين ظلت مكتومة ولم يعلن عنها، ونجح الطرفان بعد عتاب في تجاوزها، بسبب أن معظم الصحافيين يؤيدون الرئيس عبدالفتاح السيسي ويرون أنه بديل وطني أنقذهم من حكم «الإخوان» الثيوقراطي المعادي لحرية الفكر والرأي والتعبير. وبالتالي فإن أي مشاكل أو تعثر في أداء الحكومة يمكن انتقاده والعمل من أجل ترشيد الأداء العام لأن البديل عن نظام السيسي مخيف ولا يمكن تحمله. من هنا انتقد كثير من الصحافيين تهميش السياسة وغلبة الاعتبارات الأمنية على عملية التحول الديموقراطي وحقوق الإنسان، من دون المطالبة بإسقاط النظام أو الثورة عليه. لكن إلقاء الشرطة القبض على صحافي يدير موقع «بوابة يناير» وطالب متدرب، فجَّر أزمة غير متوقعة بين الأمن والصحافيين. وتتهم النيابة الصحافيين بنشر أخبار كاذبة والتحريض على خرق قانون تنظيم حق التظاهر، والإخلال بالأمن، ومحاولة زعزعة الاستقرار في البلاد، وفق ما جاء في بيان وزارة الداخلية، والذي نفى اقتحام النقابة بأي شكل من الأشكال أو استخدام أي نوع من القوة في ضبط المتهمين اللذين «سلما نفسيهما بمجرد إعلانهما بأمر الضبط والإحضار». وقال مسؤول مركز الإعلام الأمني في وزارة الداخلية إن «قانون النقابة يحظر إجراءات التفتيش إلا بإذن من النيابة وهذا لم يحدث، وأن ما حدث هو اصطحاب شخصين مطلوبين من النيابة، من دون خرق القانون بأي إجراءات تفتيشية أو خرق لقانون النقابات، ولم نتعامل مع أحد بالقوة، ودخولنا كان لتنفيذ القانون وبعلم مسؤول الأمن في النقابة». لكن رواية الداخلية للواقعة تختلف تماماً عن رواية نقيب الصحافيين يحيى قلاش وبيان مجلس النقابة، فقد وصف ما حدث بأنه «اقتحام يهدد حرية واستقلال النقابة، والنقابات المهنية الأخرى»، ودعا إلى إقالة وزير الداخلية وإلى اجتماع الجمعية العمومية للنقابة اليوم الأربعاء للبحث في الواقعة. وأعلن نقيب الصحافيين الاعتصام المفتوح في مقر النقابة، واعتبار مجلس النقابة في حال انعقاد دائم إلى حين عقد اجتماع الجمعية العمومية. وبغض النظر عن دقة رواية وزارة الداخلية والصحافيين، فإن هناك عدداً من الحقائق والدلالات التي ينبغي للأطراف كافة التوقف عندها للتأمل ومحاولة الفهم، علّها تفيد في تصحيح الأداء العام. أولاً: غياب وربما تآكل العقل السياسي في أداء الحكومة وغلبة الاعتبارات الأمنية والتي لا تدرك أهمية ضمان حرية واستقلال النقابات المهنية وفي المقدمة نقابة الصحافيين، كما لا تدرك دروس التاريخ والأهمية الرمزية لمقر نقابة الصحافيين، فالنقابة عبر تاريخها الطويل - تأسست في العام 1941 - لم تتعرض لاقتحام أو دخول أفراد من الأمن للقبض على صحافي متهم في قضية نشر، سواء في العصر الملكي أو في عصور عبدالناصر والسادات ومبارك ومرسي، أي أن ما حدث هو سابقة تاريخية، وهو ما يثير غضب الصحافيين ومخاوف بقية النقابات المهنية، فالدستور والقانون يمنعان تفتيش مقر النقابات المهنية إلا بإذن من النيابة وفي حضور النقيب وممثل للنائب العام. ومع ذلك، فإن بيان وتصريحات المسؤولين في وزارة الداخلية تؤكد أن ما حدث «ليس تفتيشاً وإنما تنفيذاً للقانون»، ما يعني أن نقابة الصحافيين أو غيرها من النقابات المهنية لن تكون ملاذاً آمناً أو مكاناً لهرب المتهمين من أعضائها. لكن الإشكالية هنا أن التهم الموجهة إلى الصحافيين اللذين ألقي القبض عليهما من داخل النقابة تتصل بعملهما المهني وما قاما به من نشر أخبار أو آراء في موقع إلكتروني، أي أن التهم تتعلق بحرية النشر والتعبير، وإذا ما كان هذا النشر يعد دعوة إلى خرق قانون التظاهر والإخلال بالأمن، وهو ما يدخل في صميم عمل نقابة الصحافيين. لذلك كان من الممكن الاتصال بنقيب الصحافيين والتفاوض معه في شأن مثول الصحافيين للتحقيق أمام النيابة احتراماً للقانون ولحقوق الصحافي وواجباته. ثانياً: التوقيت غير المناسب للأزمة، فنقابة الصحافيين احتفلت أخيراً بمرور 75 عاماً على تأسيسها، كما أن العالم يحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة، وعقد في المغرب قبل يومين المؤتمر العام للاتحاد الدولي للصحافيين، وكانت الأزمة المصرية في مقدم كلمات كل الوفود. وربطت التغطيات الإعلامية الداخلية والأجنبية بين اقتحام مقر النقابة وبين هاتين المناسبتين، ما يؤثر بالسلب على سمعة مصر التي تتعرض لانتقادات واسعة في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، وأزمة مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني. كما دانت الصحف المصرية على اختلاف ميولها سلوك الداخلية، وإن ظهرت بعض التعليقات التي تحذر النقابة من الدخول في مواجهة مع الدولة، ومن تحويلها إلى منبر سياسي. وتجدر الإشارة إلى أن مصر تأتي هذا العام في تقديرات منظمة «مراسلون بلا حدود» في المرتبة 159 من إجمالي 180 دولة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، وبالتالي إذا لم تعالج بحكمة أزمة اقتحام الأمن لمقر النقابة، فإن ترتيب مصر قد يتعرض إلى مزيدٍ من التراجع. ثالثاً: إن الأزمة تدعم وحدة وتماسك أعضاء نقابة الصحافيين في مواجهة الحكومة، وكذلك وحدة وتضامن النقابات المهنية كالأطباء والمحامين والمهندسين، إذ يشعر الصحافيون بالخطر والتهديد ومن ثم سيلتفون بقوة حول النقيب ومجلس النقابة، وسيؤجلون خلافاتهم، وفي مقدمها انتقاد غالبية الصحافيين للتغطية الإعلامية والمواقف السياسية الزاعقة للصحافيين المقبوض عليهما من داخل النقابة، واللذين صارا أيقونة ورمزاً لحرية الصحافة في نظر كثير من زملائهم. من جانب آخر، فإن بقية النقابات المهنية أعلنت تضامنها مع نقابة الصحافيين، خوفاً من تعرضها لاقتحام مشابه. المعنى هنا هو أن سلوك الأمن أشعَر جموع الصحافيين والنقابات المهنية بالخطر، وبالتالي فإن الأزمة اتسعت ومرشحة الى مزيد من التوتر إن لم يتدخل العقلاء، ويبادر الحكم إلى تقديم مخرَج أو مبادرة لاحتواء الأزمة. رابعاً: ضعف أو غياب التنسيق بين أداء الأمن ومؤسسة الرئاسة والتي يفترض أن تدير دفة السياسة وتقف على مسافة واحدة من الأطراف كافة، إذ صرَّح رئيس تحرير جريدة «الأخبار» القريب من الرئاسة ياسر رزق بأن «الرئاسة غير راضية عن اقتحام الأمن لنقابة الصحافيين، وليس لديها علم بالأمر وسيتم التحقيق فيه». وتابع: «أرجو من الرئيس السيسي محاسبة من قام بهذا الإجراء تجاه نقابة الصحافيين». ولا شك في أن تصريحات رزق تحمل دلالات خطيرة، تؤكد أن غياب التنسيق والتحضير في ملفات عادية يؤدي إلى تفجير أزمات مصر في غنى عنها، إذ جرى تضخيم واستغلال سقوط الطائرة الروسية، ومقتل الطالب الإيطالي، وإعادة الجزيرتين إلى السعودية، واقتحام نقابة الصحافيين، وتحولت الأحداث الأربعة إلى أزمات ساخنة، وظَّفتها المعارضة، خصوصاً «الإخوان» وحلفاءهم في الخارج، للنيل من النظام والحكومة وتشويه صورتهما، وصورة مصر، الأمر الذي يطرح ضرورة بناء وتفعيل آليات جديدة للتشاور والتنسيق بين مؤسسات الحكومة وبين الرئاسة، علاوة على أهمية إنشاء إدارة أو خلية على مستوى الدولة لإدارة الأزمات والكوارث، مع تطوير أداء الإعلام الخارجي الناطق باسم مصر، حتى يمكن أن يخوض بنجاح معركة تحسين صورة مصر في الخارج.
مشاركة :