لست من دعاة اجترار أحداث الماضي وذكرياته وحكاياته، بل كنت دوما وما زلت أدعو إلى عدم العودة إليه وتفتيش الملفات المخزنة بأرشيفه، ولكن بعض الذكريات الجميلة تمسك بتلابيب روحك وتجبرك على الصعود في حافلة ملونة تنبعث منها أهازيج توقظ الحنين في قلبك رغما عنك.. وغالبا يحدث ذلك في الذكريات الجميلة، بل إنك أحيانا ربما تضحك بصوت مرتفع حتى يظن من يمر بجوارك أن لوثة عقلية أصابتك. شهر رمضان ومواسم الأعياد هي غالبا ما تثير كوامن الذكريات في أعماقك وتشعل الحنين في روحك حتى تتمنى لو عدت صغيرا ولو ليوم واحد فقط لتعيش شيئا من الصدق والسعادة والمشاعر الحقيقية التي كادت تدفن تحت تأثير الحياة المادية التي نعيشها، ما زلت أذكر قدر "المهلبية" الكبير الذي كانت تصنعه أمي وقت الظهيرة ثم تصبه في صحون بيضاء وتضعه بالثلاجة وكذلك "لقيماتها" اللذيذة وقبل صلاة المغرب بنصف ساعة أو أقل تبدأ في إرسال "الطعمة" للجيران، وكذلك كان الجيران يفعلون، ولذلك وقت الغروب لا تشاهد إلا أطفالا يحملون صحون "الطعمة" ويطرقون أبواب الجيران وهذه عادة اندثرت أو أوشكت على الاندثار للأسف، فنحن نعيش في غابات إسمنتية أظنها طبعت شيئا من قسوتها على مشاعر الود والمحبة بين الجيران. من تلك الذكريات أيضا البرامج التلفزيونية الجميلة التي يتم انتظارها بلهفة في ظل عدم وجود الفضائيات ويستمتع بها الجميع كأسرة واحدة بعد صلاة المغرب فتجتمع أرواحهم قبل أجسادهم، اليوم تعددت القنوات وتنوعت البرامج فتشتتت الأجساد وتغربت الأرواح، كان نوع واحد من الطعام يجمع الأسرة حوله فيأكلون من صحن واحد ويشربون من كأس واحد ويذكرون اسم الله في أول طعامهم ويشكرونه في آخره، واليوم "تتفنن" ربة المنزل في أنواع الأطعمة والحلويات والأشربة وتبدع في تزيين المائدة وفي النهاية إما أن تجلس وحيدة مع زوجها يتحسران على عدم إحساس الأبناء بهما، أو يأكل أبناء مرفهون لا يهتمون بالتسمية ولا الشكر ولا الإحساس بالامتنان على هذه النعم بل ربما أظهروا التذمر لأن "الطبخة" الفلانية لم يجدوها على المائدة. أصبحنا نهتم بشراء أغراض رمضان وتكديس "المفرزنات" أكثر من اهتمامنا بزرع القيم الروحية والدينية والأخلاقية لرمضان في عقول أطفالنا... وخزة رمضان ليس فوانيس وأسواقا يتم تزيينها بديكورات معينة بل هو سعادة علينا أن نبحث عن سرها في أعماقنا حين كنا أطفالا.. وسنجدها.
مشاركة :