كان الظن أنه حنين إلى الماضي. كثيرون، ويزدادون كثرة، الذين ينتقدون حاضر مجتمعاتهم وواقع حيواتهم. كثيرون صاروا يقارنون بعيون كليلة ونفوس غير راضية بين نمط حياة كانوا يعيشونه في زمن غير بعيد وأنماط حياة يحيونها الآن. الشوارع الرحبة والمباني الأنيقة والقصور الجميلة التي كانت مفخرة المدن وعلامة تمدينها. الناس حين كانوا أسهل قياداً وأطيب معشراً وأمتع صحبة ورفقة. الشباب حين كان الطموح حافزهم والعلم أهم أدواتهم والقدوة متاحة. فوكوياما عندما كتب عن نهاية التاريخ والنصر الأبدي للديموقراطية والليبرالية الأميركية. نسمع، في كل مكان نذهب إليه ومن كل الفئات العمرية، حتى صغار السن، روايات عن نماذج وأساليب حياة وكفاءة وطهارة حكام كدليل على زمن جميل ولى وبلد رائع تغيرت معالمه، وليتهما -الزمن والبلد- يعودان. كان الظن أنه حنين لا أكثر، حتى تأكدنا أنه لم يعد كذلك. كاد الحنين يصبح عقيدة والتزاماً، بل رأيناه بعيوننا يتحول إلى أوراق وأصوات انتخابية و «حراكات» اجتماعية وسياسية تختار وتكلف من تراه أهلاً بأن يعيد إليها زمناً ولى ووظيفة اختفت وبيتاً تهدم وأخلاقاً اندثرت ومجتمعات انفرطت. رأيناها في كثير الدول تميل إلى اختيار من قرر أن لا عودة أو إصلاح أو تغيير إلا بأساليب استثنائية أو من أعلن أو بيّت في نيته كرهاً للنخبة والمؤسسات السياسية الحاكمة وتقاليدها ودساتيرها وقوانينها. العودة في نظره لا تكون إلا بالتمرد على الدستور والأحزاب القائمة. هؤلاء القادة الجدد الذين يحكمون الآن في دول عدة أبلغوا شعوبهم بأن بلادهم لن تستعيد عظمتها أو مكانتها بين الأمم إلا إذا تحرر قادتها من أغلال القانون. لن تعود أميركا عظيمة وألمانيا الجنس الأرقى والصين مركز الكون وروسيا قطب القيادة العالمية والإقليمية ومصر أم الدنيا، إلا إذا حطم هؤلاء القادة قيود الدساتير وضغوط النخب المهيمنة وكبَّلوا المجتمع المدني وتخلصوا من التزامات المعاهدات الدولية. من الخطورة بمكان أن نعمم من أحداث وتغيرات تقع في عدد من الدول فنتحدث عن ظواهر أو تحولات في خيارات شعوب العالم وتوجهاتها. لكن من الأهمية وربما الخطورة أيضاً أن نتجاهل الأنماط الجديدة في السلوك السياسي لدول متزايدة العدد. المثال البارز أمامنا الآن هو إعلان الرئيس فلاديمير بوتين أن بلاده لن تصدق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية لأسباب هو يراها، ورآها في الوقت ذاته معظم حكام أفريقيا، ويتصرف على أساسها حكام العالم العربي، سواء أكانوا من المخضرمين أو من الجدد. المثال البارز الآخر هو هذه الحماسة المبالغ فيها والفرحة الحقيقية بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية من جانب حكام لا يخفون كراهيتهم للديموقراطية كنظام حكم وللدساتير كمواثيق وقواعد حكم. مثال ثالث في سلسلة تطول بدأت أحداثه باستفتاء يدعو حكومة المملكة المتحدة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي وهزَّت نتيجته أركان الاتحاد، لكنها أيضاً أحدثت، أو بكلمات أدق، كشفت عن شروخ في جدار الحلف الغربي، وأكدت وجود قوى سياسية في مدن أوروبا وريفها تنمو وتتضخم عدداً وقوة بميول شديدة التطرف في عدائها للنظام السياسي ومؤسسات الحكم وقوانين البلاد ونخبتها الحاكمة. رأينا خلال السنوات الأخيرة نماذج من هذه القوى في المجر وبولندا تصعد فعلاً إلى الحكم على سلم الديموقراطية والانتخابات الحرة ولكن بنِية الانقلاب عليها. رأينا هذه النماذج في عالمنا الشرق الأوسطي، وبخاصة في تركيا وإيران ومصر، وأكاد أكون واثقاً من أن القطار حامل هذه النماذج سيعود إلى أميركا اللاتينية، أو لعله عاد بالفعل. هنا وهناك الكل يبتغي العودة بالدولة إلى عظمتها أو إلى زمنها الجميل ولكن لا أحد يقول لنا بالتحديد إلى أي عهد أو مرحلة يريدون العودة. أميركا كانت في نظر بعض مدارسها التاريخية دولة عظيمة عندما دخلت أول حروبها الاستعمارية ضد إسبانيا في القرن التاسع عشر. وكانت في نظر بعض آخر دولة عظيمة عندما قادت الحلفاء نحو النصر في الحرب العالمية الثانية، وعظيمة عندما قادت العالم المعروف وقتذاك إلى وضع قواعد وصنع مؤسسات لنظام دولي جديد يجري الآن التمرد عليه. كانت أميركا في نظر غالبية المؤرخين الأميركيين عظيمة عندما كادت تحقق الحلم الأميركي لنسبة هائلة من المواطنين بفضل الرخاء الذي ولَّدته سنوات الحرب والسلم. دونالد ترامب ومؤيدوه يريدون العودة إلى زمن جميل، زمن كانت أميركا فيه دولة الرجل الأبيض، وكان المهاجرون من المكسيك والشرق الأوسط قلة، وكان الأميركيون من أصل أفريقي يعرفون مكانهم ومكانتهم ولا يتجاوزونهما. كان للفقراء حيز في المجتمع ينطبق عليه ما كان يقوله عالم الاجتماع وليام غراهام سامنر لطلبته في جامعة ييل في الثمانينات من القرن التاسع عشر عن الرجل السكير الذي يعيش في أزقة وحواري مدينة نيو هافن موطن الجامعة: «هو هناك حيث يجب أن يكون». الآن هذا الفقير هو بالنسبة إلى علماء الاجتماع المعاصرين يقع في صلب اهتمامات المجتمع وهيكله الاقتصادي. هو الآن موجود في كل مكان وليس فقط في الأزقة. هو الآن قضية، والإحصاءات تؤكد أن الفجوة بينه وبين الغني اتسعت إلى حدود لم يعد من الممكن إخفاؤها. هل يعود الأميركيون إلى الدولة العظيمة التي كانت تتجاهل وجود هذا الفقير سكيراً كان أم واعياً، أم إلى الدولة التي توجد من أجل دمجه في المجتمع؟ العولمة خلطت كل المعايير الواجبة للحكم على عظمة الدولة وفي الوقت ذاته هي الآن كبش الفداء الذي تلقى عليه مسؤولية انحدار أميركا كدولة عظمى. تلقى على العولمة أيضاً مسؤولية انحدار مصر كأم للدنيا وانحدار مكانة الدول النفطية والإسلامية والأزمة في البرازيل والمكسيك والأرجنتين ووراء تطورات غير طيبة في الهند. تلقى عليها أيضاً مسؤولية انسحاب بريطانيا من أوروبا كمؤشر لا يقبل الجدل على انحسار «الإقليمية» كعلامة بارزة من علامات عصر ينقضي. ففي الوقت الذي تتعرض فيه «إقليمية» أميركا الشمالية للانحدار نتيجة شقاق خطير بين الولايات المتحدة والمكسيك، تكمن بعض أسبابه في الهجرة كما في مبادئ حرية التجارة وانتقال الأموال والعمالة بل ومواقع الإنتاج الصناعي، وكلها من المسوغات الأشهر للعولمة، يتعرض الاتحاد الأوروبي للانفراط نتيجة اتساع الفجوة بين من يسمونهم بالأوروبيين البيض في غرب أوروبا وشمالها وبين من يسمونهم الأوروبيين الملونين ويقصدون سكان وسط أوروبا وشرقها. هذا التهديد بالانفراط تتضاعف قوته بفضل ضغوط الهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط. يجرنا الحديث عن انحدار الإقليمية في أميركا الشمالية وأوروبا إلى الحديث عن الإقليمية في الشرق الأوسط، سواء في ما عهدناه تحت عنوان نظام إقليمي عربي أو في ما يصل إلينا متردداً أو خائباً تحت عناوين نظام شرق أوسطي. لا جدال في أن النظام الإقليمي العربي دخل غير آسف أو معتذر مرحلة الانفراط. أقول غير آسف أو معتذر لأن لا دولة عربية واحدة من الدول التي تحملت مسؤولية قيادة النظام سعت جدياً أو فعلياً لوقف الانفراط، إما عن عجز أو اعترافاً بأن عناصر الانفراط وأولها انبعاث الهويات الأولية باندفاع رهيب كانت ولا تزال أقوى من دوافع الاندماج. أما نظام الشرق الأوسط فمازال حلماً أو وهماً يداعب خيال كل قادم جديد من مناطق الجوار وكابوساً يقلق مضاجع القادة العرب. أياً كان حال المشروعين، مشروع انفراط النظام الإقليمي العربي بالبدء بتجميد العمل العربي المشترك أو تشتيته ومشروع جمع أفكار لإقامة نظام شرق أوسطي، أتصور أن البديل الذي حلَّ بالفعل هو تبني سياسة إقامة تحالفات وقتية ومرنة وبأهداف محددة ينتهي العمل بها مع تحقق أهدافها. أظن أن هذا النوع من التحالفات سيفضله الرئيس ترامب لأنه ينسجم مع طبيعته البراغماتية وولعه بعقد الصفقات. وأعتقد أن قادة آخرين في العالم سيفضلونه بدورهم، ليس فقط لأنهم صاروا لا يستحسنون الإقليمية والتحالفات الثابتة، ولكن لأن القادة في ثلاث دول كبرى، وهي روسيا والصين وتنضم إليهما الآن أميركا، يفضلون سياسة التحالفات الوقتية والمرنة ومحددة الأهداف. لا أعرف للعولمة نهاية قريبة أو بديلاً جاهزاً، ولكني أعرف أنها غرست ألغاماً قابلة للانفجار في كل مكان مرَّت به أو استقرت فيه. وما نراه الآن يحدث في أميركا والشرق الأوسط والقارة الأوروبية ليس أكثر من نماذج مصغرة لما يمكن أن يحدث مع انفجار ما انغرس من ألغام أخرى. * كاتب مصري
مشاركة :