كلما عدت للكتابة عن فاطمة اليوسف، أجد أنني أسير في خريطة كلها حروب. حربها الأولى ابنة 14 عامًا، لتترك صفة اليتيمة اللبنانية المتبناة، من أجل أن تصبح سيدة المسرح في مصر و«سارة برنار الشرق». وحربها من أجل ترك المسرح لتصبح صاحبة أول مجلة فنية. وحربها لتحول «روز اليوسف» إلى مجلة سياسية وليس معها من كلفة إصدارها تعريفة أو «نكلة». اليتيمة اللبنانية السابقة أصبحت وجهًا سياسيًا نافذًا في مصر، بعدما كانت وجهًا فنيًا جذابًا. ومن المسرح تعلمت فاطمة اليوسف كيف تحرك مشاعر الناس. ولم تتردد في معركة أو حرب من أجل مصر. وقفت مع سعد زغلول ضد الاحتلال البريطاني. ووقفت معه ضد أحمد فؤاد. ووقفت مع «الوفد» ضد فاروق. وعندما أدخل عبد الناصر ابنها إحسان عبد القدوس السجن، منعت الكتابة عن ثورة 23 يوليو (تموز)، وأخذت تكتب عن... هتلر! هي التي دفعت محمد التابعي إلى ترك الكتابة في الفن من أجل الكتابة في السياسة. وهي التي اكتشفت سلسلة طويلة من كبار كتّاب مصر. وهي التي كانت تجول القاهرة متخفية لكي تعرف لماذا لا ينادي بائعو الصحف على مجلتها. وهي التي بكت عندما سمعتهم ينادون «روز اليوسف بنكلة». لكنها لم تتوقف. من نجمة على المسرح إلى نجمة على مسرح السياسة الكبير. لكن أشهر رئيسة تحرير في تاريخ مصر، وربما في تاريخ الصحافة العربية، كانت تملي الأفكار ولا تصوغها. وكان مصطفى أمين، التي كانت أول من اكتشفه، يقول إنها تكتب اسمها بخط متعثر. وكانت كلما منعت الحكومة صدور المجلة أصدرتها تحت ترخيص آخر. ومن ثم انتقلت إلى إصدار «روز اليوسف» اليومية. وفي الحالتين، لم يبقَ اسم كبير لم يمر على صفحاتها. ومن هذه الصفحات، تخرّج أساتذة كثيرون، أولهم محمد التابعي، المعلم الأكبر لأجيال الصحافة الحديثة. ولم تكن «روز اليوسف» مدرسة في صحافة مصر وحدها، بل دخلها لبنانيون كثر، بينهم سليم اللوزي، الذي عندما أصبح صاحب دار صحافية، أطلق على أحد الأجنحة اسم مواطنته التي عمل لديها سكرتيرًا للتحرير. ومن كتّابها ومراسليها الروائية الراحلة ليلى عسيران، زوجة الرئيس أمين الحافظ. وفي العادة يرث الصحافيون آباءهم. أما إحسان عبد القدوس، فقد ورث أمه، صحافيًا حرًا ومستقلاً وحالمًا. ولم يكن يشبهها فقط في الطباع والطموح والمثابرة، بل خصوصًا في ملامح الوجه. وظلت وفية لرئيس الوزراء زيور باشا، الذي منحها الترخيص السياسي بعدما رفض الوزير المختص ذلك، وكان رجلاً طيبًا «لا يتعب قلبه بقراءة الصحف». وعندما شكت إليه الأمر، استدعى وكيل وزارة الداخلية حسن رفعت وقال له: «اعطوها الترخيص. خلوها تاكل عيش».
مشاركة :