عندما عبر الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ الحدود إلى إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، كان يخشى أن أحدًا من أصدقائه السابقين لن يقابله، أو يكلمه. لقد غيَّرت الحرب جميع الناس. حوّلت الأصدقاء إلى أعداء، والمسالمين إلى قتلة، والطلاب إلى محاربين، والنساء إلى شاردات، والعلاقات البشرية إلى حقد. وعندما التقى زفايغ أول أصدقائه الإيطاليين وتعانقا، قال له: «ها هي بروباغاندا الكره قد توقفت أخيرًا، وعدنا إلى لغة الشعر». ها أنا أتجول في إيطاليا بعد عشرين عامًا على الحرب الثانية. لا آثار للدمار، ولكن الفقر يملأ الجنوب. ولولا بعض التقدم لبدت نابولي كما كانت في الحرب عندما وضع عنها الكاتب البريطاني نورمان لويس «نابولي 44»، وهي ملحمة إنسانية صغيرة تروي كيف كان النسوة في إيطاليا المهزومة، يبعن أجسادهن لجنود الحلفاء في الساحة العامة، لقاء بعض السردين المعلب. لم تعرف قارة جنون الحرب كما تمزقت به أوروبا. ثلاثة رجال تقاذفوا الإنسانية مثل كرة قدم مشلعة: هتلر وموسوليني وستالين. كل واحد أراد البشرية عجينة في يديه، أو تحت حذائه. وجميعهم تركوا العالم من حولهم كما تركوا بلدانهم، ريحًا صفصفًا. وثلاثتهم تبادلوا الخداع والكذب ونقض المعاهدات الموقعة. وخرج ستالين منتصرًا، بينما شنق الإيطاليون موسوليني من ساقيه، وأطلق هتلر النار على صدغه الأيمن متأخرًا جدًا، فلم يكن قد بقي شيء من برلين التي حلم بها آمرةَ العالم بالجزمة الآرية اللماعة. الآن إيطاليا مليئة بعشرات ملايين السياح. ونصف أهل القطار الذي يعبرنا المضائق العجيبة والجبال وأجمل سهول الدنيا، نصفهم يتحدثون لغات غير إيطالية، ويخطر لي أن الإيطاليين يسخرون ضمنًا من هذه «البابل» من الألسنة التي تغزو بلادهم. لقد جاءوا يتأملون عن قرب، الفنون التي نشرها الإيطاليون حول العالم: بنى المهندسون الإيطاليون جزءًا من الكرملين وتحفة «قصر الشتاء» في سانت بطرسبرغ، وجمَّل الفنانون الإيطاليون تلة الكابيتول في واشنطن، ونشروا القصور والنُّصُب عبر أوروبا، وخصوصًا في مدريد وفيينا وبراغ وفرصوفيا، وملأوا أميركا اللاتينية بأعمالهم الجميلة. ونحن في لبنان، مدينون بزهو عمارة القرميد والشرفات المطرزة للأمير فخر الدين، الذي حمل معه هذا الفن من منفاه في توسكانا. سعيد من يحمله القدر مرة إلى سهولها. جرب السيارة فهي أجمل الطرق. عندما كنت شابًا قال لي الوزير النادر علي بزي: عندما تكبر وتتزوج، خذ أولادك وهم صغار إلى مرابع التاريخ، لأنهم عندما يكبرون، سيذهبون إلى مرابع الحداثة. حملتهم صغارًا من فرنسا إلى جنوى. وإلى فلورنسا. وبغير قصد، زرعت في ابنتي الاهتمام بإيطاليا العصور الوسطى، الذي يبدو شغفها الثقافي الوحيد. لقد اكتشف الإيطاليون أميركا للأميركيين، وعلموا الشعر والتجارة للإنجليز، والفنون العسكرية للألمان، ورقص الباليه للروس، والموسيقى للجميع. لكنهم أخفقوا على مرّ التاريخ، في بناء دولة متكاملة مثل سائر الدول.
مشاركة :