عثرت لنفسي على فندق قريب من الشانزلزيه بـ11 فرنكًا في الليلة مع الفطور، أي نحو 5 ليرات لبنانية. بعد 15 عامًا على نهاية الحرب، كانت آثارها الاقتصادية لا تزال واضحة. وكان أدباء العالم، خصوصًا الأميركيين، يأتون إلى باريس لبدء حياة جديدة. فمن حظها أن هتلر لم يدمرها كما فعل بلندن، ويحول معظمها إلى ركام. وقد رفض جنراله في المدينة تدمير الجمال الذي يستيقظ عليه كل يوم. كانت كلفة الحياة في باريس قليلة، وأقل منها سبلي في الحياة. مغامر هائم في هذا العالم، يحركه الشباب وعدم الحساب والجهل في التحسب. ومثل كل جاهل، كنت أحلم بأن تكون باريس في انتظاري، لكن باريس ليست في انتظار أحد. بالكاد تقوم بهمومها وهموم القادمين إليها من كل مكان. لم تكن الصحف العربية تصل إليها بعد. ولا أدري كيف عرفت أن سعيد فريحة هنا في فندق «جورج الخامس». ربما من قراءة مقالة له. وذهبت لزيارة صاحب «الجعبة» من دون موعد مسبق. فأين الهواتف آنذاك؟ وأين من يملكها؟ وأين أصول الزيارات بين التلامذة والأساتذة؟ اتصلت به من مكتب الاستقبال، فرحب بي متفاجئًا. وفي جناحه كان، كما هو في مكتبه بالطابق الرابع في «دار الصياد»، بالروب دو شامبر، المفتوح عند الصدر على «الفانيلا». وفي يديه سيجارته، وإلى جانبه أوراقه وأقلامه. كان، بالنسبة إليّ، عملاقًا من العمالقة. وشعرت في داخلي بفرح غامر: مع سعيد فريحة في باريس. لقد كبرت يا ولد، وأصبحت مثل هذا المعلم تجوب العالم وتكتب من المدن. لا. لا. لا يغرنّك لطف المعلمين. أنت لست حتى في بداية الطريق بعد. قال سعيد فريحة، الذي كان يحب أن يملي «الجعبة» على المحررين: «ما دمتَ هنا، تفضل اكتب». وكانت «جعبته» يومها عن زيارته إلى المدينة بدعوة من الأمير طلال بن عبد العزيز وعروسه الأميرة منى الصلح. سوف تمضي سنوات طويلة قبل أن أتعرف إلى الأمير طلال وتجمعني به مودات العمر، وقبل أن تجمعني المودات نفسها مع «كريمات الزعيم الخالد» كما كان يطلق على بنات رياض الصلح، وخصوصًا كبيرتهن، الراحلة الغالية علياء. وقد بلغني بعد وفاتها في باريس، عتب من العائلة بأنني لم أكتب في رثائها ما يكفي. وهذا صحيح. لا يمكن لأحد أن يكتب ما يجب في علياء الصلح. وعندما يتحدث الناس عن «المرأة العربية»، فإن قلّة تعرف أن موقع علياء بين كبار العرب كان نادرًا وعظيمًا، علياء في الثقافة، علياء في السياسة، علياء في اللغات، وسيدة «صالون فكري» مثل شهيرات التاريخ العالمي. لم تطل تلك الرحلة إلى باريس كثيرًا. وعندما لم أعد قادرًا على شراء شيء سوى الخبز والحليب، كان لا بد من العودة.
مشاركة :