...غير أن التسكع في باريس كان مثل رحلة طويلة في متحف مفتوح. وكان المشي الذي تمتعت به طيلة العمر، ذا فائدتين: اقتصادية (بمعنى التوفير على الاقتصاد العالمي والبنك الدولي)، وثقافية. ما من زقاق في باريس بلا تاريخ. وما من زنقة من دون اسم أدبي. قبل فترة كتبت الدكتورة بهيجة بهبهاني في «القبس» مطالبة بإطلاق اسم مصطفى محمود على أحد شوارع الكويت، مرفقة الطلب بتعليل عن 80 كتابًا ألفها، و400 ساعة من برنامج «العلم والإيمان»، والمسجد الذي بناه في القاهرة. هل لرجل غير كويتي أن يضم صوته إلى صوت الدكتورة بهبهاني؟ كم عندنا مصطفى محمود في العالم العربي؟ كم قامة إنسانية في حجمه؟ تخلد الدول ذكرى بارزيها بتسمية الشوارع والجادات بأسمائهم. وباريس مثل خريطة للأدب والفكر والشعر، تعبرها كأنك في كتاب. والتسكع الآخر كان على ضفاف السين، حيث يحتل الأرصفة باعة الكتب القديمة، أو «الكتابيون»، بالمعنى الفرنسي. وكان في يومها ممثلة مسرحية كبيرة تملأ باريس. فطلبتُ إجراء مقابلة معها، غير مؤمل إطلاقًا أنها ستقبل. ولم يكن في غرفتي بالفندق هاتف أتصل منه. أو على وجه الدقة، لم تكن الغرفة تتسع لهاتف أيضا. لذلك؛ كنت أجري اتصالاتي القليلة من عند موظفة «الاستقبال»، وهي سيدة عجوز فيها بقايا حسن من القرن الحالي، وبقايا ثرثرة وفضولية من جميع القرون الماضية. وكنت أسميها في رسائلي إلى «النهار» «الكونتيسة دو سيغور» راوية التاريخ الفرنسي وحكاءة الخبريات، على ما غنت فيروز. كان هناك رسمان إضافيان، خلا الغرفة، تدفعهما نقدًا عند «الكونتيسة دو سيغور»: أجرة الهاتف، مُرسلاً أو متلقيًا، وأجرة الحمام في الطابق الثاني. وبسبب حرصي على الاستحمام كل يوم، خامرت «الكونتيسة» شكوك حاولت إخفاءها بمسحة من العطف عليّ والتعاطف مع موازنتي، فسألتني ذات يوم ممثلة اللهفة: «هل من سبب للاستحمام كل يوم؟». وأجبتها بسرعة «طبعًا، إنه الاستحمام». لكن ها هي الكونتيسة تتلقى اليوم مفاجأة حياتها منذ أن بدأت العمل في الفنادق. طلبت لي الرقم وأعطتني السماعة السوداء الضخمة وراحت تسترق! وإذا بهذا الهزيل، نزيل الغرفة البائسة والمريض بحب الاغتسال، على الطرف الآخر، أو الطرف الأغر، يطلب التحدث إلى صاحبة أهم اسم مسرحي في فرنسا. من أنتم؟ جراذين، من أنتم؟ وإذا بسيدة المسرح على الهاتف. والنزيل يشرح أنه صحافي من لبنان يطلب مقابلة. تقتضي الصحافة الحديثة، كما يمارسها أصحابها اليوم، أن نسأل فورًا «فماذا حدث؟». حدث، يا مولاي، أن سيدة المسرح وافقت في سرعة وطيبة وتواضع. واتفقنا على اللقاء في المقهى، جانب المسرح، في اليوم التالي. وكدت أقع من الفرح. أما الكونتيسة فوقعت من غيرتها على المسرح الفرنسي. يقع سراعًا بين يدي نزيل أضيق غرفة في الفندق.
مشاركة :