ماذا ترتدي إذا كنت ذاهبًا للقاء أهم ممثلة مسرحية في البلاد؟ جواب: أي بدلة بسيطة؛ لأن المقابلة في مقهى بسيط. لكن لم يكن لدي سوى بدلة سوداء «للرسميات». فارتديتها فرحًا. ولم أنس أن أخبر جميع أصدقائي بأمر الموعد، فتظاهروا جميعًا بأنهم صدّقوا. وصلت إلى المقهى، فوجدته بسيطًا عاديا. وأكثر بساطة منه كانت السيدة التي مدّت يدها فصافحتني، كأن موعدنا معًا يومي. لكن وشاح الألفة الذي رمته على الغريب لم يحل الغريب من التوتر. وبدأت في طرح الأسئلة توفيرًا لوقتها، لكنها قاطعتني بالمزيد من الألفة: «لماذا العجلة؟ ألن تدعوني إلى العشاء»؟. هذا سؤال لم أحسب له حسابًا في كل الأسئلة التي خطرت لي. لكن كان عليَّ أن أجيب، بضيافة حاتمية، قبل أن أتأكد من أنني أملك تكلفتها. «وماذا طلبت سيدة المسرح، عشاءً لها؟». ساندويتش من الجبنة الصفراء. اختارت بساطة المقهى، لا «وجاهة» البدلة «الرسمية» التي بدت غريبة في هذا المكان. كنت أعتقد أن المقابلة ستستغرق نصف ساعة تخرج السيدة بعدها إلى عملها. لكن المفاجأة الثانية، سارة هذه المرة، أن الليلة عطلة المسرح وسيدته، وليس هناك سوى بعض التمارين. بعد ساعة، صارت السيدة هي التي تطرح الأسئلة عليَّ. ليس بينها لماذا ترتدي هذا الطقم المضحك في هذا المكان. ولا قالت لي إنني أبدو مثل رئيس النوادل، ولكن جالسًا. وتحول الحديث من المسرح إلى بساطات الحياة، وإلى بيروت التي تعرفها جيدًا. ثم اقترحت أن أرافقها إلى المسرح لأحضّر بعض التمارين. أيضا في المسرح الخالي، بدوت مضحكًا وغريبًا بالطقم الأسود، فيما كان الممثلون في القمصان و«الجينزات». ورحت أفكر بالقطعة التي سأكتبها عن هذه التجربة الصحافية النادرة، وكيف سينظر إليها الزملاء والرفاق، وسيجمعون، كالعادة، أنه كلما زاد إخفاق الصحافي خَصُبَ خياله. وكل مهنة في الأرض مليئة بالغيرة والحسد. إلا الصحافة، فهي الغيرة والحسد، وجنون الغيرة والحسد. الصحافيون يضرعون لفشلك أكثر مما يضرعون لنجاحهم. وقد تعتقد أنك تنجو بنفسك من هذا المستنقع اللزج، إذا مارست عملك من بعيد أو عبر المحيطات، لكن أهل المستنقع لا يبرحون رفقة الحشرات السامة والطحالب. وبالإضافة إلى طبائع البشر في المهن الأخرى، ففي هذه المهنة طبائع الصحافيين. كان مساء جميلاً وثريًا. وفيما أودع سيدة المسرح، استوقفتني قائلة: «ألن نلتقي بعد الآن؟». ليلة المفاجآت الطويلة. هل حقًا تريدنا أن نلتقي؟ أن يشاهَد هذا الفتى مع سيدة الضوء في مدينة الأنوار؟ خفت أن أجيب. لكنها رافقتني إلى بوابة المسرح بين الكراسي الحمراء وقالت مرة أخرى: «أين؟ طبعًا في المقهى الذي يلتقي فيه الرفاق ويمر به اللبنانيون، وأستطيع أن أوقع على الفاتورة مهما كان طبق العشاء. لقد وقع بطل توفيق الحكيم «محسن»، في حب قاطعة التذاكر في المسرح، أما أنا، فانظر إليَّ يا عم توفيق، اسمع من يقول.. غدًا ألقاك.
مشاركة :