قالوا كثيرا عن الحب، فضائله، تأثيراته الإيجابية علي الإنسان، الإنسانية، ولنقل على البشرية كلها، ولكني أزيد على كل ما قيل بأن الحب عشق، احتواء، اكتفاء، فهكذا يكون الحب بين المحبين، والحب اتصال وكلام وشعر ونثر، وصدق من قال إنه من القلب للقلب رسول، فلذة الدنيا في وصل الحبيب وسماع صوته ولو من بعيد والاستنئاس به لو قريب، أما إذا تجاهل الحبيب حبيبه، فما يعلى هذا من مقام الحب، فما بالنا إذا ما بالغ الحبيب في الهجر والمغالاة في فراقه وتجاهله لحبه!.. هل يريد أن يثبت وجوده في قلب الحبيب؟ أو التيقن من قدره وغلاوته ومحبته؟ اعتقد لا، لأن الهجر والفراق في بعض الأحيان لا يثبت مقدار الحب. وربما تكون لي فلسفتي الخاصة في الحب، فهو لذة الدنيا ووصل السلام، أما إذا تمادينا في الصدود، فهذا يعني وأد للغرام، فالهجر والفراق يكسر القلوب. والخوف، كل الخوف، أن يرحل الحب بسبب الفراق والهجر. والخوف، كل الخوف، ألا يعود الحب بوهجه وحرارته كما كان في زمنه الأول. والخوف، كل الخوف، أن ننكسر من الفراق وتنسي العين شكل الحبيب، فمن رحل لا يعود، وإن عاد لن يكون كما كان في سيرته الأولى. أقول الى أي مهاجر، إنسان أو إنسانة، في أي مكان أو أي موقع، ياليت المشاعر ترى بالعين، لتدركون كم هو الجرح، ليعرفون قدرهم. ان الإحساس بالوحدة بعد الهجر والفراق يدمي القلوب ويحول الأيام الى جحيم، والسعادة الى نيران ملتهبة لا تنطفئ، والقلب الدامي ترهقه الأحزان ويصير كالمجهول لا يعرف أحد أين سيكون غده، أو حتى كيف سيكون نهاره ويومه، فهو ضائع، جائع، حزين، كسير، بسبب الوحدة، لغياب شريكه في الحياة، لغياب حبه، لغياب عشقه، لغياب حياته، فحبه هو الحياة. فأي إنسان يخشى الغياب، والمخيف، أن يتعود هذا الغياب! فما أقسى الفراق، وكم يتمنى الإنسان أن يرى مهاجره ولو صدفة، ولكن ربما لن تصل الأمور الى ما كانت علىه، فإن عاد الحبيب بعد هجره، فهو لن يكون كما كان..فثمة من يرحل لا يعود، وخوف المحب، أي محب أن ينطبق هذا على غائبه ومفارقه.. وثمة من يقول إن المحبة لن تموت حتى لو طال الغياب، فالحب موطن، والحب فكر، والحب قلب، والحب حياة، والحب ليس عابر سبيل، وأنما هو الوطن، والمحب للوطن أسير. وأقول لاي إنسان مهما كان موقعه أو مكانه او بلده، لا يستطيع العيش بلا حب، فالحب هو كل مؤهلات المرء للعيش في هذه الدنيا، وبالحب يهب الإنسان كل ما لديه من عواطف جياشة، غرام، عشق، فيهب حياته لحبه مثل الكريم الذي يمنح بسخاء.. وسعادته في حبه بأن يوهب محبته لمهاجره، لعله يتعلم منه ليدرك معنى العطاء، وتتحرك مشاعره ولا يبخل. فالإنسان بحبه يستطيع أن يلهب القلوب نارا، وباحتوائه واهتمامه بحبه يستطيع أن يحرك القلوب من مكامنها لتكون عواطفها جياشة، فحب أي إنسان يحرك القلوب حتى لو كان قلبه جمادا، وحب أي إنسان هو الذي يجعل كل ما يراه جميلا، وكرم أي إنسان وخيره يهبه لم يستحق، وتسامحه يكون لمن يرق قلبه ويلين حتى لو بعد حين.. أما المترفع والمتعالي، فالقلوب له لن تلين، فالإنسان الكريم لا يباع أو يشترى إلا بالتواضع وحسن القبول وحلو المعشر وليس بالكبر والغرور، فهذه صفات تزيد الفرقة بين القلوب.. ولعل الإنسان المحب يعيش هنا حياة أبو فراس الحمداني عندما تحدث عن محبوبته التي آلهبت قلبه وهي عنه بعيدة متجلدة بالصبر، وهو بالصبر أصبح مجنونا، ولا يستطيع العيش بدونها، فكتب أراك عصي الدمع..شيمتك الصبر|أما للهوى نهي عليك ولا أمر| بلى أنا مشتاق وعندي لوعة|ولكن مثلي لا يذاع له سر. نعم أنا مشتاق ومهاجري لا يرق قلبه، ليواصل الحمداني وصف حبه ونار قلبه التي تلهب جوانحه ولا يزال حبه متسلحا بالصبر إذا الليل أضواني بسطت يد الهوي|و أذللت دمعا من خلائقه الكبر|تكاد تضيء النار بين جوانحي إذاهي أذكتها الصبابة والفكر.. فما أصعب ليل العاشق بعيدا عن عشقه، ليل طويل مظلم بلا فجر، بلا بقعة ضوء، بلا أشعة شمس تلتهب. نعم أنا مشتاق ومهاجري لا يزال يصبر على هجره بلا معنى أو داع، ويعرف مدى ظمإي ويتمادى في البعاد، يعرف مكان الماء ويحجبه في جفاه، وهنا يعود أبو فراس الحمداني لوهجه وتساؤلاته تسائلني من أنت وهي عليمة|و هل بفتى مثلي على حاله نكر|معللتي بالوصل والموت دونه|إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر. نعم أنا مشتاق ومهاجري يلوعني ويعلم ما بقلبي من نار تشتعل من الهجر وهو يتمادى في البعاد، فماذا نقول له سوى ما قاله أبو فراس الحمدانيفقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا|فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر|و قلبت أمري لا أرى لي راحة|إذا البين اضناني الح بي الهجر.. نعم أضناني البعاد والح بي الهجر. نعم أنا مشتاق ولي لوعة، والمهاجر يضنيني بعاده والح بي هجره، وهنا الحديث لكل من يحب، ولهذا فكل هؤلاء يلجأون الى وصف شاعرنا الكبير عبدالله الفيصل في رائعتهثورة الشك، فهل العيب في أما في مهاجري، فأصبحت أشك في نفسي كما يقول الفيصلأكاد أشك في نفسي لأني أكاد أشك فيك وأنت مني..فكيف أعيش بدونك وأنت مني، وكيف أشك فيك وأنت مني، فأنا صنعتك من هواي وجنوني، ولماذا تخون العهد ولم تحفظ هواي ولم تصني، يواصل الفيصليقول الناس إنك خنت عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصني.. هذا رغم أن بحت لك بأن كل هواي ومناي في هذه الدنيا، ولم أصدق فيك كذبا قيل عنك في بعدك، ولم لا؟ فأنت هواي وأنت مني وكيف أعيش بدونك، حتى طال بي البعادوأنت مناي أجمعها مشت بي إليك خطي الشباب المطمئن يكذب فيك كل الناس قلبي وتسمع فيك كل الناس أذني. نعم أنا مشتاق ولي لوعة، والمهاجر يضنيني بعاده والح بي هجره، والشك يقتلني وظلاله استعبدتني وأرهقتني حياتي، فهذا ما وصفه الفيصل بكلماته ومشاعره الفياضةوكم طافت على ظلال شك أقضت مضجعي واستعبدتني كأني طاف بي ركب الليالي يحدث عنك في الدنيا وعني. نعم أنا مشتاق ولي لوعة، ومهاجري يضنيني بعاده والح بي هجره، وهو على الهجر قائم ومصمم غير مبال بما أضنى به محبه من كثرة بعده، وغير مبالي بما أرهقه به وساوس، ولعل ما قاله الفيصل هنا لخير معبرعلى أني أغالط فيك سمعي وتبصر فيك غير الشك عيني.. وما أنا بالمصدق فيك قولا.. ولكني شقيت بحسن ظني وبي مما يساورني كثير من الشجن المؤرق.. لا تدعني تعذب في لهيب الشك روحي وتشقي بالظنون وبالتمني أجبني.. إذ اسألتك هل صحيح حديث الناس خنت ألم تخني؟..أكاد أشك في نفسي لأني أكاد أشك فيك وأنت مني.. يقول الناس إنك خنت عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصني وأنت مناي أجمعها مشت بي إليك خطي الشباب المطمئن. لا أقول الي أي مهاجر، إن الحب نعمة، إحساس، مشاعر فياضة، والأهم من كل هذا فإن الحب احتواء، واهتمام، فبقدر احتواء حبك والاهتمام به سيكون مقدار حبه وعواطفه وعطاؤه، فمن احتوى ازداد حبا، ومن أبدى اهتماما تلوع اشتياقا.. فغياب الاحتواء والاهتمام يجهضان مشاعر الحب مهما كانت فياضة. الى كل البشر، الى كل من يحب، فلتواصلوا احتواء من تحبون، واهتموا بهم وبمشاعرهم وبقلوبهم، حتى لا تشتعل النار بين جوانح محبينكم ولا يضنيهم البعاد والهجر..وحتى لا يشمت في المحبين أعداؤهم أو نصدق في المحب قولا يثير الشكوك. كاتب ومحلل سياسي بحريني
مشاركة :