من الواقـــع الرسمي إلى الخــاص مروراً بالافتـراضـــي وأخيراً التحليلي، يعيش المشاهد العربي ويتعايش فاعلاً في ما ندر ومفعولاً به في ما كثر. مرت دهور طويلة وتوالت أزمنة كثيرة على هذا المسكين القابع على أريكته أمام الشاشة التي بثت فيه أفكار الدولة بالأبيض والأسود، حيث سافر الزعيم المفدّى إلى الخارج تصحبه السلامة ليناقش العلاقات بين البلدين، وسرعان ما عاد إلى أرض الوطن بعدما رسخ العلاقات وأبرم الاتفاقات ودس المعونات في جيبه الخلفي. وظل المواطن المسكين ملتزماً أريكته مُطبقاً شفتيه باستثناء الأوقات التي اضطر فيها إلى فتحهما لإطلاق صيحة دهشة هنا أو علامة تعجب هناك، حيث شهد بزوغ عصر واقع جديد هو الواقع الفضائي الذي سار بثقة وتؤدة فارضاً نفسه مطيحاً بالواقع الرسمي وضارباً عرض الحائط بلونيه الأبيض والأسود، طارحاً ألوان الطيف بدرجاتها. واعتدل المشاهد العربي في جلسته ممتناً لعصر الصحون اللاقطة والأطباق المتصارعة على جذب انتباهه وإعادة تشكيل وجدانه، فهذا واقع عربي قادم من اميركا رأساً، وهذا واقع آت عبر الحدود مرتدياً زياً عربياً حاملاً أجندة غربية طامحة، وثالث ورابع وخامس وكل يتباهى بألوان تخطف الأبصار وتهيمن على الأذهان. وانغمس المشاهد انغماساً، وأعجب إعجاباً، وتاه توهاناً، ثم وجد نفسه معرضاً لحقيقة من نوع فريد هي الحقيقة الافتراضية التي هلت عليه تارة في زي برامج ما يسمى بـ «تلفزيون الواقع»، وتارة بأوجاع عنكبوتية فرضت نفسها عليه من قلب الوطن وقاعه. فمن جهة، تم استنساخ فكرة تلفزيون الواقع ليجد نفسه متابعاً معايشاً لمجموعات شابة تعيش في بيت واحد. ومن جهة أخرى، فوجئ المشاهد نفسه باختلاط الواقع المتفجر من الأثير العنكبوتي حيث كانت النقلة نوعية، ولمعت خيوط العنكبوت، حيث اليوتيوب والمدونات والفايسبوك والتويتر الناقل لواقع قد يكون مسرح أحداثه الشارع المجاور، لكنه غير مدرك لها غير ملم بها. وامتزج الواقع الفضائي مع العنكبوتي واختلطا حتى تماهيا في واقع واحد أدى بشكل أو آخر إلى واقع «الربيع العربي» العابر للحدود الكاشف للمستور. وبينما خيوط الواقعين تتشابك وتتناحر كاشفة عن خيوط وهمية وأخرى مسمومة وثالثة مموهة، وفي ظل هزة الواقع الربيعي العنيفة، جاءت توابع أبرزها واقع تحليلي يحاول القائمون عليه بكل ما أوتوا من قوة ومال وتوجهات وأيديولوجيات ومصالح ومكاسب مرتقبة فرضه على المشاهد المتململ الذي استبد به القلق على أريكته. هذا الواقع التحليلي يصوّب سهامه الحارقة ويوجه أدواته الخارقة ويمنهج خططه الثاقبة ليسيطر على المشاهد ويعيد توجيه أفكاره ويهيكل ماهية همومه وطموحه. الواقع التحليلي يقوم عليه جيش من المحللين والخبراء هم صنيعة القنوات ومن يقف وراءها من جهات دولية وإقليمية، ومنظمات بحثية وتوجيهية، ولكل غرض وغاية. وبات الواقع التحليلي قائماً بذاته فارضاً سطوته. وبينما ينتظر المشاهد إصداراً جديداً من إصدارات الواقع التلفزيوني، يعيد ترتيب الأريكة، ليجد جلسة أكثر راحة تعينه على شقاء الواقع.
مشاركة :