ذهب ابن رشيق إلى أن التوليد هو: «أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه أو يزيد فيه زيادة» بمعنى توليد المعاني الجديدة من معان قديمة، وهنا كان الإبداع على اعتبار ثراء اللغة المستمد من التراث اللغوي. وأمام ذلك الثراء قرأنا عن توليد الطاقة، والطاقة الكهربائية، أو التوليد الذاتي لها من محطة أخرى فكانت محطات توليد الطاقة، ومستشفيات التوليد والوضع؛ وبالتالي نستوعب أن الشيء يتولد عن شيء آخر بمستوى الجودة والنوعية أو أقل وربما أكثر. فهل يتولد صدق العطاء عن الحب؟ أو يتكون بمعزلٍ عنه؟! بات الإفصاح عن الحب مهنة من لا مهنة له حينما لا يدلل العطاء عليه أو يرشد الوفاء إليه!! الحب كمية عواطف سكنت الكيان وتوطنت المشاعر؛ وبالتالي فهي أبعد من أن تُحصر في علاقة ثنائية بين ذكر وأنثى فقط قد تتولد عن تلك العلاقة مشاكل ومعضلات ومآسٍ وألم، وربما تولد عنها شركة وبناء وأسرة. وإذا رأيت عدم تقنينها في علاقة ثنائية بين جنسين مختلفين قصدت بهذه الرؤية أن الحب كثيراً ما ينشأ بين جنسين متقاربين وأجناس عدة أو بين بشر وجماد، وبشر وحيوان؛ وبالتالي أمكن توليد شيء آخر من ذلك الشيء أو تلك الأشياء. علاقة الفنان التشكيلي مع الريشة واللوحة والألوان علاقة تولد رسماً سريالياً أو تجريدياً أو واقعياً أو رسمة تصويرية. علاقة لا تقل عن علاقة الطهاة بالمطبخ في توليد وصفة طعام كونتها خبرتهم بالمقادير أمامهم فنسبت إليهم حقوق ابتكار تلك الوصفة، أو علاقة المهندس بالمنشآت، والشاعر بالكلمات، والملحن بالنوتة الموسيقية.. وعلى ذلك نقيس كل علاقة بشرية بجماد قادت إلى التوليد. فهل لو تمعنّا في كلمة «توليد» أمكننا إنتاج شيء من شيء آخر مختلف؟ وهل من الممكن توليد من اللاشيء شيء؟!! حقيقة لا أتصور إمكانية ذلك. أقصد لا أتصور إمكانية توليد جنين ولم تلتقِ بويضة بحيوان منوي، أو توليد لوحة تشكيلية في غياب الخامات، فهل يتولد من اللا حب عطاء؟!! ولو تولّد!! فما نوع ذلك العطاء أو ما هو كمّه وإلى أي حد يمكن أن يستمر ويبقى!! ابن رشيق أصاب كبد الحقيقة في رؤيته أن المعنى يتولد عن معنى آخر؛ وبالتالي تتولّد الأشياء من أشياء أخرى تمنحها أكسجين البقاء والاستمرار والديمومة؛ فتكون أشبه بمن يواصل السير على ذات الطريق الذي قطع أوله من سبقه. مثال ذلك «سيبويه» في تبنيه منهج «الفراهيدي» وتكملة مشواره الذي قطع فيه شوطاً ما زال مرجع علماء اللغة. عن منهج الفراهيدي تم توليد سيبويه لمنهجه بحيث لا يُشطب دورٌ لاحقٌ على الدور الذي سبقه أو يرفض السابق اللاحق له. التوليد ليس نظرية لكن يمكن فلسفته وهو ضارب أقدامه وغارس لها في كل أرض، وعلم، ونظرية، ولغة، ووظيفة. ولا يريد منّا سوى إعادة فَهْم الكلمة لمن لديه فهم مغاير لها، أو محاولة فهمها لمن لم يمعن النظر فيها من قبل، وما أنا هنا في موقفي من الكلمة إلا كمن يرمي حجرة في المحيط.
مشاركة :