منذ أسبوعين، أجرى جيفري غولدبيرغ، الصحافي في مجلة The Atlantic الأمريكية، لقاءً مطولاً مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لم يأخذ حظه المطلوب من الدراسة والتحليل لجهة استقراء ومعرفة المحددات الاستراتيجية للموقف الأمريكي من إيران تحديداً، ولسياستها في المنطقة بأسرها تبعاً لذلك. ولئن كان التقصير الإعلامي العربي مألوفاً في مثل هذه القضايا، باستثناء إشارة من الإعلامي عبد الرحمن الراشد إليها، فإن على أصحاب القرار والجهات الرسمية ذات العلاقة في العالم العربي إجمالاً، وفي الخليج العربي تحديداً، أن تأخذ الإشارات الواردة في اللقاء بكثيرٍ من الاعتبار في مجال تفكيرها بالحاضر والمستقبل. كانت ثمة مؤشرات في المرحلة الماضية على أن الإدارة الأمريكية تستخدم موضوع النووي الإيراني بشكلٍ عام، وتهديده لإسرائيل تحديداً، كعاملٍ أساسي وراء الحراك السياسي العالمي الذي تقوده تجاه إيران بكل أنواعه وتجلياته. لكن المقابلة المذكورة تريد أن توحي بأن ذلك الموضوع بات العنصر الثابت في تشكيل سياسة الإدارة تجاه المنطقة بأسرها. أما كل شيءٍ آخر فقد صار بمثابة تفاصيل ومتغيرات يمكن التعامل معها تكتيكياً، بما في هذا المصالح العربية . ورغم أن إسرائيل نفسها لاتزال تُشكك في أن سياسات الإدارة الأمريكية تجاه إيران تتمحور حول هذا الهدف، إلا أن الإدارة تستند عليه كأرضيةٍ قوية لوضع وتنفيذ رؤيةٍ أكثر شموليةً للمنطقة، من المرجح أن تحتوي على محاولات جدية لإعادة رسم الخرائط والتحالفات وطبيعة النزاعات والتناقضات بما يحقق مصالح استراتيجية كبرى لها . كان واضحاً في اللقاء أن أوباما يضع جميع النقاط على الحروف ، وجاء هذا بصراحة ووضوح. فمن ناحية نفى بشكلٍ قاطع كل الدعاوى التي تتحدث عن قدرة أمريكا على التعامل بنجاح مع إيران نووية. ومن ناحية أخرى، أظهر درجةً عالية من الفهم للنظام الإيراني وطبيعة تفكيره حين قال: "بدون أي درجة من الوهم تجاه طبيعة النوايا الإيرانية، وبعيداً عن امتلاك أي نظرة ساذجة لطبيعة النظام، ينبغي القول أنهم أصحاب مصالح". كان هذا مدخلاً بعد ذلك لسلسلة من التصريحات المتتالية التي تؤكد على تلك الجملة الأخيرة كمدخلٍ رئيس لما يبدو اتفاقاً استراتيجياً مع إيران. فعندما سأله الصحافي عن تصريحات مارتِن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية، والتي وصف فيها قادة النظام الإيراني مؤخراً بأنهم "عقلانيون"، تحدث أوباما قليلاً عن دكتاتورية النظام وقمعه لشعبه. لكن هذا لايأتي في أولويات عناصر صناعة السياسة. من هنا، تابع قائلاً بعدها: "أظن، وهذا ما أعتقد أن الجنرال ديمبسي قصده، أنه لو أننا نظرنا كيف يعملون وإلى القرارات التي اتخذوها خلال السنوات الثلاثة الماضية، فإننا نجد أنهم يهتمون بنجاة واستمرار دولتهم. إنهم حساسون لآراء الناس كما أنهم منزعجون من العزلة التي يواجهونها. إن لديهم قدرة على أخذ قرارات على أرضيةٍ تجنبهم المآلات السيئة من وجهة نظرهم. لهذا، فإنهم إذا ما وُجِهوا بخيارات يمكن أن تسبب لهم الكثير من الألم، أو يكون فيها مسارٌ أفضل، فإنه ليس من المستبعد أن يأخذوا القرار الصحيح". وفي إجابة على سؤال آخر، وبعد الحديث عن العصا المتمثلة في العقوبات والمقاطعة الدولية لإيران وكيف قادتها أمريكا بقوة، تحدث أوباما عن ضرورة المحاولة للوصول إلى حلٍ دائم مع الإيرانيين، فقال: "إن من الممكن إدارة اندماجهم. فإذا أمكن لهم أن يتغيروا. إذا أمكن لهم، في الحقيقة، كنتيجةٍ لصفقة مقابل برنامجهم النووي، فإن اقتصادهم يصبح مندمجاً أكثر في المجتمع الدولي، ... وسيكون هذا بكل تأكيد نتيجةً يجب أن نسعى إليها جميعاً". ربما يكفي هذا لدفع أصحاب العلاقة إلى إعادة النظر في كثيرٍ من السياسات الراهنة في المنطقة، وإلى العمل من جديد على إحداث اختراقات بينية في الوضع السياسي الإقليمي. لكن محتوى المقابلة يحمل المزيد من مؤشرات الخطر التي يصبح التغاضي عنها وعن دلالاتها نوعاً من الانتحار. ففي لفتةٍ فارقة، يسأل الصحافي الرئيس الأمريكي عن رأيه فيما إذا كان يرى خطورةً أكبر في التطرف السني أو التطرف الشيعي. هنا يطرح أوباما وجهة نظر لايمكن الهروب أبداً من دلالاتها الاستراتيجية الخطيرة على مستوى الرؤية السياسية وعلى مستوى القرارات العملية التي يمكن أن تُبنى عليها. ذلك أن الرجل تهرب من الإجابة المباشرة على السؤال، لكنه أجاب عليه بطريقة معبرةٍ جداً ، إذ يقول أوباما: "ما سأقوله هو أنك إذا نظرت إلى السلوكيات الإيرانية فستجد أنها استراتيجية، ولاتأتي على شكل ردود الأفعال. إن لديهم رؤية متكاملة للعالم، وهم يدركون مصالحهم، ويستجيبون لمعادلة الأرباح والخسائر... إنهم دولة كبيرة وقوية ترى نفسها كلاعب مهم على المسرح العالمي، ولا أعتقد أن لديهم أمنيات انتحارية، وهم يستجيبون للحوافز". هل كان أوباما بحاجةٍ لأن يجيب بشكلٍ مباشر عن السؤال أعلاه؟ الجواب هو النفي بالتأكيد لأن إجابته أبلغ بكثير من أي إجابةٍ مباشرة. تحدث أوباما عن عقلانية الإيرانيين وبراغماتيتهم، وتحدث عن "خلق توازن بين السنة والشيعة"، وعن حاجة دول المنطقة للتعايش مع سياساته والاعتياد عليها، وعن غير ذلك من القضايا الحساسة والخطيرة. ومن الواضح من استقراء الأحداث أن مايمكن أن نسميه صفقةً استراتيجية كبرى تمت أو في طريقها للاكتمال بين النظام الإيراني والإدارة الأمريكية. وليس مستبعداً على الإطلاق أن يتمثل أحد عناصر الصفقة في تقديم إيران لضمانات محددة تتعلق بأمن إسرائيل من ناحية، وفي تأمين المصالح الأمريكية من ناحية أخرى. نعم، الإيرانيون براغماتيون جداً، والذي يعرف طريقة تفكيرهم ومداخل سياستهم الداخلية يمكن أن يستقرىء أن قادة إيران أقنعوا أنفسهم بتقديم هذه الضمانات حفاظاً على دولتهم ومصالحها. وفي منطق الحسابات، سيقولون لشعبهم أنه تم تأجيل نصف (المشروع الإيراني) المتعلق بدعاوى المقاومة ومحاربة الشيطان الأكبر إلى المستقبل، في مقابل تحقيق نصفه الآخر المتعلق بالهيمنة على المنطقة في هذه المرحلة. كيف يقرأ أصحاب العلاقة هذا المشهد الاستراتيجي الحساس وكيف يتعاملون معه؟ من الواضح أن القراءة الراهنة، وماينتج عنها من سياسات، لاتكفي إطلاقاً لاستجابةٍ فعالة للقادم الخطير. لامفر إذاً من مراجعةٍ خلاقة وجذرية تحرص على توظيف كل الأوراق الممكنة في مواجهة هذا التحدي الخطير، ولو اقتضى الأمر اختراقات قد تكون غير مألوفة في عالمنا العربي، لكنها اختراقاتٌ لايُستغنى عنها في السياسة الدولية، وهاهي إيران وأمريكا تُقدم لنا نموذجاً عنها هذه الأيام. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :