تخيلوا سجنا دون جرم، دون محاكمة، دون مدة عقوبة واضحة، دون عفو خاص أو عام، ودون زوار! يا لفظاعة العقل الإنساني حين يستبد بعقل آخر لمجرد أنه يختلف عنه، ويجبره على التداوي كي يعود إلى حظيرة الصواب. العربحكيم مرزوقي [نُشرفي2016/10/23، العدد: 10433، ص(24)] "مجنون" لمحته في عاصمة عربية، يقف مع قطيع السيارات عند الإشارة الحمراء، اقتربت منه وحاولت الاستماع إلى ما يقوله، فوجدته ينادي بحياة “القائد الرمز”، حاكم البلاد.. عندها أدركت أن لا أمل لدينا حتى في الجنون، وأنّ عبقرية رجال “القائد الرمز”، قد استطاعت أن تطوّع حتى العقل الباطن وتروّضه. مدينة بلا مجانين هي مدينة بلا أسئلة، بلا تنوّع، بلا متنفس وبلا ذاكرة، هي ليست مدينة، بل قرية لنمل بشري لا يحركه عقل ولا حتى غريزة. لا نخفي عادة إعجابنا بهذه الفئة التي تقول ما نشتهي قوله في سرنا، وتفعل ما لا نتجرأ على فعله ونحن عراة أمام المرآة وخلف باب محكم الإغلاق. غالبا ما يثير المجانين ضحك الآخرين ويكونون مادة للتفكه على اعتبار أن الضحك هو ردة فعل بشري إزاء منطق غير مستأنس، فالحيوانات -بما فيها الأبقار والتماسيح- لا تضحك ولا تبكي، ولا تسأل عن عقولها. صنّف الناس عبر التاريخ هذه الفئة في خانة السلوكيات الشاذة، وسمح لهم دون غيرهم بشيء من التطاول وسلاطة اللسان، حتى حسدهم بعض الحكماء والشعراء فتخفوا في زيّ البهاليل والمهرّجين وأصحاب الكرامات، والذين غالبا ما ينطقون بالكلام الملغز أو حتى الشتيمة التي لا يعاقبون عليها. من المجانين وأنصافهم من حظي بمجالسة أهل السلطان (ربما لأنهم لا يطلبون شيئا) وتذكّرهم التاريخ أكثر من مستضيفيهم، ذلك أنهم يقفون على التخوم بين الحكمة والجنون، كمهرجي شكسبير، وخدم موليير وشخصيات تشيخوف، مرورا ببهلول هارون الرشيد، ووصولا إلى العصور التي استحدثت فيها “ورشات تصليح آدمية” اسمها “المصحات العقلية”. تخيلوا سجنا دون جرم، دون محاكمة، دون مدة عقوبة واضحة، دون عفو خاص أو عام، ودون زوار! يا لفظاعة العقل الإنساني حين يستبد بعقل آخر لمجرد أنه يختلف عنه، ويجبره على التداوي كي يعود إلى حظيرة “الصواب”. إنها السلطة في أقصى حالات عهرها، هي الوحيدة التي تملك الحجج والبراهين على أحقية الذئب في أكل الحمل، وزج الطبيب المعالج في قسم “المرضى”، كما في رائعة تشيخوف “عنبر رقم 6”. متى يصبح “المجنون” الذي التقيته في عاصمة عربية كمجنون الإغريق الذي جلس في زاوية تحت شمس الصباح في مقدونيا، وقف الإسكندر الأكبر أمامه مانعا عنه أشعة الشمس فدار بينهما الحوار التالي: المجنون: أغرب عن وجهي أيها الرجل ودعني أستمتع بدفء الشمس. الإسكندر: ويحك أيها المجنون، أنا لست مجرد رجل.. أْنا الإسكندر الأعظم. المجنون: وماذا فعلت حتى تلقب بالأعظم؟ الإسكندر: غزوت نصف بلاد العالم. المجنون: وماذا أيضا؟ الإسكندر: وسأغزو النصف الآخر وأصبح سيد هذا العالم. المجنون: وماذا بعد؟ الإسكندر: لا شيء.. سوف أعود إلى موطني هنا وأستمتع بشمس الصباح الدافئة. المجنون: أغرب عن وجهي إذن أيها الرجل، ودعني أستمتع بدفء شمس الصباح، دون أن أضطر لغزو العالم. حكيم مرزوقي :: مقالات أخرى لـ حكيم مرزوقي مدينة بلا مجانين مدينة بلا أسئلة , 2016/10/23 الكتاب الورقي أم الإلكتروني.. جدل افتراضي بين قراء لا يقرأون , 2016/10/18 مبروك عزيزي بوب , 2016/10/16 ضعف الحجج قاسم مشترك بين مناهضي الإعدام ومؤيديه في العالم العربي , 2016/10/11 قصة واقعية جدا , 2016/10/09 أرشيف الكاتب
مشاركة :