يحيا الرعاة بقلم: حكيم مرزوقي

  • 11/6/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لو فكرت الإنسانية في قيمة ما قدّم لها الرعاة عبر تاريخها، لأقامت لهم النصب والتماثيل مع قطعانهم في مداخل المدن قبل البوادي، وذلك اعترافا بإسهامات هذه الفئة في صناعة الحضارة. العربحكيم مرزوقي [نُشرفي2016/11/06، العدد: 10447، ص(24)] لعلّ أجمل ما يمكن أن يقوله راع لحبيبته، هو ذاك الذي ينسب لسليمان في نشيد الإنشاد “شعرك قطيع ماعز يتسلق جبل جلعاد”. حسب الراعي فخرا أنه أول من فهم ورصد وتكيّف مع لغة الحيوان والطبيعة، فتعلّم منها الكثير وتمكّن من تدجين الرياح في نايه ليحاكي غربة القصب، ويؤسس لمفهوم الشعر كلحظة اندهاش أبدية أمام معجزة الحياة. يدرك الراعي بالسليقة أن الدواب والغيوم والسواقي لا تقف عند إشارات مرور، وأنّ المواشي لا تصطفّ في طوابير أمام سفارة أجنبية إلاّ لالتهام عشب حديقتها، غير أنّ مظاهر الحياة المدينيّة مدينة إلى الرعاة في تفاصيل كثيرة، نذكر أمثلة بسيطة منها، وبحسب الروايات الشائعة: * بنطال الجينز، اللباس المفضل لدى رعاة البقر لمتانته ومناسبته لصهوات الخيول المطاردة للأبقار، وانسجامه مع جميع الفئات حتى صار رمزا لكسر رتابة الأناقة الأرستقراطية وعنوانا للانفتاح الطبقي. * الروك فورت، هذه الجبنة الفرنسية ذات الطعم الآسر، يعود اكتشافها وبالصدفة إلى راعي أغنام في الريف الفرنسي، أخفى صاحبنا زوّادته من الجبن العادي في مغارة رطبة، وحينما عاد إليها بعد أيام، وجد أن قطع الجبنة قد تعفّنت، ولكنه كان مضطرا لأكلها بدافع الجوع (أمهر الطباخين)، ومن يومها أدمن الراعي إيداع أجبانه تلك المغارة الساحرة، وأدمن الفرنسيون من بعده هذا المذاق العجيب، وجعلوه على رأس ثقافتهم المطبخية. * الغولف، رياضة أصحاب الصولجانات، قيل إن ابتداعها يعود إلى راع في أحد الأرياف البريطانية، كان يلهو بعصاه بين التلال ويقذف بطرفها الأحجار ويفزع الأرانب في حفرها ومضاجعها، أحب بقية زملائه من الرعاة هذا اللون من التسلية وعمّموها، حتى باتت الآن عنوانا لرياضة الطبقات الثرية والميسورة. كما لا ننسى أن أغلب الرياضات الأخرى كالركض والسباحة والقفز والتسلق ورمي الأثقال ورفعها، وفنون المبارزة والقتال وغيرها، كان يمارسها الرعاة دون حاجة إلى احتفاليات وتتويجات، هذا بالإضافة إلى كرة القدم التي كانت تصنع من وبر الإبل أو شعر الماعز. * القهوة، هذا المشروب الأسود الساخن الذي أحيط بهالة من السحر والغموض، وحرص العثمانيون على عدم خروجه من قصور السلاطين وأحاطوا كيفية إعدادها بالسرية والكتمان، فبالغوا في تحميص حبيباتها لمحو خصائصها الظاهرية، اخترقت أوروبا عن طريق جاسوس نمساوي وما لبثت أن انتشرت كالإشاعة، وأرست ثقافة بأكملها فارتبطت بأسماء لامعة من محبيها مثل كازنوفا وفاغنر والكاردينال “كابوتشينو” في البندقية، والذي سمّي باسمه أحد أشهر أنواعها، نظرا لتشابه طريقة إعداد فنجانها بثوبه الكنسي. يعود الفضل في اكتشاف هذا المشروب إلى راع يمني أو حبشي.. لا يهم، فلو فكرت الإنسانية في قيمة ما قدّم لها الرعاة عبر تاريخها، لأقامت لهم النصب والتماثيل مع قطعانهم في مداخل المدن قبل البوادي، وذلك اعترافا بإسهامات هذه الفئة في صناعة الحضارة. حكيم مرزوقي :: مقالات أخرى لـ حكيم مرزوقي يحيا الرعاة , 2016/11/06 حدود الابتعاد عن الفصحى أو الاقتراب منها بين المشرق والمغرب, 2016/11/01 قرطاج كمان وكمان, 2016/10/30 هل أنعش الكمبيوتر الخط العربي أم حوله إلى جثة مشوهة, 2016/10/25 مدينة بلا مجانين مدينة بلا أسئلة , 2016/10/23 أرشيف الكاتب

مشاركة :