ستبقى تلك النظرة العميقة الأغوار محيّرة في وجوه مروان قصاب باشي، الذي رحل قبل أيام في برلين عن 82 عاماً في برلين، وستظلّ شاخصة الينا، وإن ختم صاحبها رحلته تاركاً بصمة مهمة تشهد على حقبة من معاناة إنسانية استبقت بملامحها المأتمية، أحداثاً رهيبة خلّفتها الحروب العربية الراهنة، لا سيما في سورية. من أين له القدرة على استشفاف الوجه كهاوية مجبولة بملامح الحروب وأوحال مشرديها؟ تؤرخ أعمال الراحل زمن الفواجع والنكبات والهجرات، لكأنها سجل قيد للهيئات الضائعة والتاريخ الذي لم يُكتب بعد. مروان هو من الفنانين القلائل الذين اخترقوا أعراف الجماليات المعهودة وأخرجوا مكامن الجروح الإنسانية، كي يشع الألم قيمةً فنية، وإن ظهر ملطخاً بالدم. وهو من الذين تخطوا الحدود والعوائق الجغرافية والإثنية، في مسألة الصراع بين الغرب والشرق، بعد المكانة التي تبوّأها في ألمانيا وسائر الدول الأوروبية والعربية. فأعماله دخلت في مقتنيات أشهر المتاحف العالمية والمؤسسات الثقافية. «إن عالم الوجه عند مروان أصبح وجه العالم»، العبارة التي أطلقها الروائي عبدالرحمن منيف، الذي وضع كتاباً ضخماً عن باشي بعنوان «رحلة الفن والحياة». ذلك بأن مروان من الفنانين القلائل الذين ينتسبون فكرياً وعاطفياً إلى عالم الشعراء والأدباء المحدثين، ولعلّ كتابات هؤلاء هي التي أعطت نفساً جديداً وروحاً نابضة ورؤى متنوعة لوجوه مروان المعذبة. لقد ظهر وجه بدر شاكر السيّاب في لوحة من بداياته المبكرة، رسم فيها وجه الشاعر بتعابير مأسوية، متموضعاً عند قاعدة الصليب يتوسد كتلة من اللحم المسلوخ. ورسم صوراً للمناضل السوري منيف الرزاز، بيده هراوة أو معلقاً على عمود المشنقة، فضلاً عن وجوهٍ مغطاة بالكوفية الفلسطينية، تعكس الريبة والأسى والعذابات الجسدية، في مرحلة الانقلابات السياسية والعسكرية، والترهيب الأيديولوجي والوسائل القمعية. ذلك أنّ معاناة المثقفين العرب في الستينات وعلاقتهم بالأنظمة لم تغيبا يوماً عن بال الفنان الراحل، بل ألهمتاه موضوعات جعلته على صلة وثيقة بالواقع العربي، وما يكتنفه من أحداث، بمقدار ما عزّزتا شعور الانتماء لدى طالب مهاجر، يتلقى الصدمات ويتحدى مصاعب التأقلم والعيش مع صورة وجهه أولاً ثم وجوه الغرباء. ما خلا بداياته الانطباعية لمناظر القرى والأرياف وبساتين دمشق مسقط رأسه (من مواليد العام 1934) وشاعرية اللطخة اللونية التي ارتبطت وقتئذٍ بملاحظات الطبيعة، لم يرسم مروان طوال حياته سوى الوجوه الإنسانية المعذبة والحالات الوجودية العميقة التي تعكس رؤيته الحسية للعالم. ولعلّ دراسته الفن في برلين (1957- 1963)، معقل التعبيرية الألمانية، عززت صلته مع الإنسان المتألم. ولأنّ أعماله تميزت عن سائر «تعبيرات» فناني جيله من الألمان والأوروبيين، استحقّ منصب أستاذ في المعهد العالي للفنون الجميلة في برلين (منذ العام 1977). نلمح في التجارب التي تعود إلى العام 1964 مشاهد الحروب والقتل والعنف، في أعقاب الأحداث الدرامية التي رافقت قيام جدار برلين عام 1961، والحرب الباردة ومن ثم انتقال برلين الغربية إلى واجهة للعالم الحر. ولم تكن مرحلة البدايات سوى شرارات أولى حملت بين طياتها دلالات تعبيرية، يمتزج فيها الشخصي بالعام، والحميمي الذاتي بالمناخ السياسي- الأدبي، وما يعصف في الذهن من عواطف متأججة، تنعكس انتفاخاً شبيهاً بالحمّى على تيمة الوجه الذي يتضخم ويتكور حتى يصير بحجم اللوحة: كرةً في ملعب الفراغ أو تلةً في منظر ليليّ. وقد ينسحب الكائن من ذاته وتنوص عيناه وتتباعدان أكثر فأكثر، كي يخضع الجسد لمزيد من حالات الضغط النفسي والاندفاع الغريزي. تلك الحالة الوجودية ذات البعد الفلسفي- الكافكاوي (تنم عن الضيق والتأزم)، يرويها مروان بتعبيرية أدبية عالية ويضعها في أماكن الريبة وسط كمائن يسطو فيها اللون بمناخاته العاتمة وإضاءاته الخفية على مشهدية اللوحة. سطوة الأسلوب تعود أيضاً إلى طريقة التظليل بدرجات من اللون نفسه، كالأصفر الليموني مع القرميدي وعلاقة الرمادي بالأخضر المكتوم والأرجواني المنطفئ، وما تبعثه الريشة من مشاعر التوتر والاختناق جراء الانسياق إلى تموجات باطنة، وطريقة الانزياحات التي تُبعد الموضوع أحياناً من وسط اللوحة كما هو مألوف لديه، كي ينسحب إلى طرفها أو هامشها. أما اقتصار حضور الكائن على الرأس، فقد جاء بعد مراحل قطعها مروان في المكابدة أدت الى ضمور الجسد وانتصار الرأس على ما عداه في التعبير عن رحلة الحواس والفكر والمشاعر. لذا تبدو الوجوه نمطية مطبوعة بالكدمات والجروح والأثلام، مشغولة بأسلوب تحويري وتشويهي يصدم ويدهش في آن واحد. تتراكم الطبقات اللونية وتتكاثف وتتعاقب بملامسها الناتئة، وكأن خلف كل وجه وجهاً آخر، وخلف كل حقيقة حقائق. فإنسانه هو الغريب المعذب المتألم الجحيمي الكابوسي الذي يعاني من الخوف والقلق والكآبة. يرسم مروان الرؤوس ضخمة على أحجام كبيرة، فتبدو كالجبال عاتية مكفهرة ومضيئة في بعض نواحيها بأنوار مصابيح مجهولة. ولا يمكن النظر وحده أن يحيط بها إلا من بعيد. فيها القاع وفيها القمة، وبينهما حوار الإنسان مع الحياة والموت. والسر في وجوه مروان أنها مرسومة على مسطح واحد خالٍ من الأبعاد، ولكنه متعدد الرؤى. أحياناً تبدو الوجوه ظليلة مثل غوطة دمشق بأشجارها وأغصانها المتعانقة لكأنها سحابات ذكرى عابرة على محيّا المنظر- الوجه أو الوجه- المنظر. ساهمت التجارب الحثيثة لمروان في بعث أيقونية جديدة، في موضوع الوجوه بطابعها المأسوي التي تركت بصمات كبيرة على مسار العديد من تجارب الفنانين العرب.
مشاركة :