مروان قصاب باشي.. عن رحيل فنان الوجوه المعزولة

  • 10/29/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تُصوّر تجربة الفنان الدمشقي الراحل مروان قصاب باشي (1934-2016) رحلة الفنان التشكيلي السائر وراء شغفه إلى أبعد مسافات الحلم والمخيلة. منذ قرر مروان أن يصبح رساماً في الأربعينيات عندما كان في الثالثة عشرة من عمره، مرورا بتلك الرحلة الأولى التي قادته إلى برلين وإلى باريس التي كان يحلم بأن يدرس فيها الفن، لتكون العاصمة الألمانية محطته الأهم لاكتشاف ذاته وإطلاق مشروعه اللوني المتطور والذي لم يتوقف عن التجريب والبحث حتى أيامه الأخيرة، تاركا في متاحف نيويورك وشيكاغو وبرلين روائع من لوحاته التي بلا شك ستخلد اسم مروان قصاب باشي كواحد من أهم تشكيليي العالم في الخمسين سنة الأخيرة. ولعل ما يربط صورة مروان قصاب باشي في وعي المتلقي العربي، ليس فقط تلك الوجوه المموجة التي أوجد له شخصية تصويرية خاصة ممهورة بريشة مرسمه البرليني، بل أيضا ارتباطه الوثيق بجيل الأدب والثقافة العربية. رسومه بروتيرهات تعبيرية لوجوه أدونيس وعبدالرحمن منيف والسياب وآخرين، تحولت إلى أيقونات فنية، غير أن وراء هذه الرسوم قصصا ونصوصا ورسائل ورقية كان من أشهرها ما جمع في كتاب (في أدب الصداقة) وضم مراسلات مروان الشهيرة مع الروائي عبدالرحمن منيف. قراءة هذا الكتاب ستكشف فورا عن أن ما يحتويه هو أبعد من رسائل ورقية محررة، ثمة في الكتاب شحنات إنسانية تفيض بين سطور الصديقين، إلى جانب تلك الأسئلة والمحاورات والكتابات التي تخترق الوعي وتطالب باكتشاف الأنا من خلال الآخر (الصديق)، في لعبة المرسل والمستقبل، عبر طرح العديد من الموضوعات التي تحاول فهم التجربتين والذاتين المبدعتين. مروان يتحدث عن تلك العقوبة التي تركها منيف له خلال زيارته لمرسم باشي في برلين. والعقوبة هي مؤلف منيف الأشهر (خماسية مدن الملح) ليقرأها مروان بشغف كبير، ثم يكتب معلقاً: ما أحلى العقاب، غالبا أريد أن أصرخ لأقول: هذه أعجوبة، تلك الروعة في السرد المحكم، تلك السيطرة العبقرية على مجاري الرواية، تلك الوديان الناعسة الهادئة كالأنهار في مساراتها الرحيمة. في موقع آخر من الكتاب نقرأ رسالة من عبدالرحمن منيف، يكتب فيها ما يعبر عن اشتياق زمن المراسلات الورقية: حاولنا يوم 31 كانون الثاني الماضي أن نسمع صوتك وأن نقول لك أبلغ التسعين وحاول بلوغ المئة، أيها الحبيب، لكن تلك الآلة الصماء لم تستجب فقد حرن الهاتف وتبعه الفاكس لكن أذنك اليمين لم تكف عن الرنين فقد تذكرناك كثيرا. في أبريل 2005 وفي احتفالية أقامتها المفوضية الأوروبية تحت عنوان (مروان في دمشق)، جاء مروان قصاب باشي ليقيم معرضه الشخصي الأول في مدينته الأم، عارضا أيضا تلك الرسائل المنيفية بحبرها الطازج وورقها الطري ضمن المعرض الذي ضم تشكيلة واسعة تمثل مراحل تجربته الفنية، بينها 28 لوحة زيتية كبيرة الحجم وعدد من كتب ومخطوطات تعود لبداياته الفنية في سورية. المعرض أقيم في خان أسعد باشا وسط دمشق القديمة وكان الاختيار مقصودا وملامسا لذاكرة مروان الذي نشأ في الحارات القريبة من المكان، هناك، حيث كنتُ أحضر المعرض، استعاد الفنان السوري الألماني المكان الأول؛ أزقة الأربعينيات الميلادية المحاذية لبيت طفولته. ساردا للحضور تلك الصور العالقة في الذاكرة، عن النساء اللاتي كن يرتدين العباءة ويغطين وجوههن بالخمار الأبيض وعن تلك اللحظة التي رأى وجه إحداهن بالصدفة.. كان مروان في ذلك اللقاء متماهيا مع صباه الأول وطفولته، دون أن يبقى هناك طويلا، حيث تحدث عن تجاربه الزيتية التي أفصحت عن فنان متحدٍ وباحث جاد في طوبوغرافية اللوحة، متوقفا عند جدارية وجه استغرق العمل عليه حتى عام 2005، أكثر من 11 سنة. مستعرضا في بورجكتر، تلك الطبقات اللونية التي رُسمت فوق الطبقة الأولى للجدارية، في بحث لا متناهٍ عن وجهه هو؛ وجه الإنسان من خلال الألوان الكثيفة التي تغطي مساحات الوجه البشري وكأن اللوحة عمل غير منتهٍ، إلا بنهاية صانعها. وهو ما حدث، فبعد ما يزيد على 20 سنة من البدء في تلك الجدارية، تغير العمل تماما. صار أشد قتامة وتشويها وسوداوية من خلال خطوط رُمحية تمزق ذلك الوجه المائل للتفحّم، وكأن النهاية هنا، تصور اللحظة التي سيرحل فيها مروان تاركا ظلال الحاضر القاتمة والمهشمة بالحرب لتخيم على وجه الجدارية الملحمية لرأس الإنسان الذي يسكنه، هذا الموضوع – رأس الإنسان- الذي تدور حوله معظم أعمال مروان قصاب باشي، وهو يصور بتعبيرية فذة تضاريس الوجوه المجردة والمائجة والمعزولة في تيه العالم. أما الألوان، والتي يستلهمها قصاب باشي من تشظياته الداخلية، المتأثرة بلون الأمكنة وطبيعة ودرجة لون شمس المدن وعلاقتها وبالظل والعتمة، من دمشق مرورا ببرلين وحتى باريس مع فارق التدرجات اللونية التي يرصدها بدقة في زيتياته الفاتنة. أما على مستوى التكوين فيعترف قصاب باشي: تبدو لوحاتي ظاهرياً غربيّة إلا أن تفاصيلها الداخلية شرقية. هذا ما رآه مروان في أعماله القلقة المتبدلة دوما والتي دفعت أدونيس ليكتب عنها، مبيناً: لا يرسم مروان صفات الوجه، وإنما يبتكرها فيما يبتكره. فهو لا «ينسخ» الوجه، وإنما يُشكّله ولنقل على سبيل المفارقة: إن مروان «يكرر» الوجه على نحو لا يمكن تكراره. هذا التكرار المستحيل، سيشمل تجربة وسيرة الراحل مروان قصاب باشي والتي تجسد وتعكس في آن صوراً من جيل ترجل للرحيل تباعاً. من أعمال مروان قصاب باشي عبدالرحمن منيف في لوحة لمروان قصاب باشي

مشاركة :