2016/10/27 في غفلة من الزمن، وفي سنة 1970م، تم عرض مسرحية (يعيش يعيش) الرحبانية، على مسرح (البيكاديلي)، في بيروت، والتي كانت سيدة الأصوات (فيروز)، فيها حلماً يرتسم ويتحقق لكل من كان يتمنى أن يلامس نجوم وأبراج فنها الشاهق العلو، فلعله أن يدني من قلبه وعينيه وروحه فرحة قد لا تتكرر. ويكون العرض سابقاً لأوانه ومكانه ومعانيه، فالحبكة هنا ليست فقط جمالية موسيقية لحنية راقصة شعبية، ولكنه يتعدى كل الحدود الفنية العربية ويتجاوزها لتقديم المسرح الغنائي السياسي بقالب غير مسبوق، وبحرية غير مطروقة، والذي كانت معانيه نتاج ما كان يحدث في لبنان حينها، من حراك سياسي، ومن علامات قرب حدوث كارثة الحرب الأهلية، والإطاحة بالزعامات المتناحرة. وحبكة المسرحية تحكي عن انقلاب عسكري جديد يحصل في إمبراطورية (ميدا) الرمزية، والمصابة بحمى الانقلابات، فيضطر الإمبراطور (جوزيف ناصيف)، للهروب من قصره، بمساعدة أعوانه الموالين له، ويصل إلى دكان قريب من الحدود، يملكه (بوديب)، (نصري شمس الدين) الطيب، والمولع بالصيد، وتديره معه حفيدته هيفاء (فيروز)، الصبية الظريفة، الحاذقة، سريعة الكلام. يقنعهما أعوان الإمبراطور الهارب بأنه شخص بسيط اسمه (برهوم)، وأنه مطلوب من الشرطة بسبب تعديه بالضرب على زوجته وحماته، فيصدقاه، ويخبآنه في الدكان، ويخترعا له مهنة (غسل الصحون)، في الدكان، وهي مهنة رمزية لما هو أبعد من ذلك سياسياً؛ فيزاولها بعد أن يتخلص من ثيابه ولحيته، ويحاول التنازل عن مدارات شخصيته الإمبراطورية. وخلال فترة الهروب يظل (برهوم) يناقش هيفاء في كنه ما يحدث، وماذا كان يجب أن يحدث لحاكم نسي الشعب وهمومهم، فكانت هيفاء ذكية لماحة ولديها عديد من النصائح والحلول. وقد أصبح (برهوم) صديقاً للمهرّب (ملهب)، (أنطوان كرباج)، والذي يذكرنا بشخصية اللص (روبن هود)، الذي يجازف ويهرّب لمنفعة الناس، فيعجب به (برهوم). ومن خلال الأحداث يتضح أن الحكم الانقلابي الجديد فاسد أيضاً، وغير فعال، شأنه شأن الحكم السابق؛ فيقوم المهرب بالتخطيط لانقلاب آخر يؤدي في النهاية إلى الإطاحة بالحكم، ومن ثم تعيين (برهوم)، إمبرطوراً لقرب شخصيته من ذلك!. ولكن السياسة خوانة غدارة، فحالما يتسلّم (برهوم)، منصبه الجديد، لا يلبث أن يلتف على من ساعدوه وينسى وعوده لهم، وأهدافه ونظرياته بالعدل والسلام، ويقوم بإرسال من يفتش دكان هيفاء وجدّها، للبحث عن السياسيين الفارّين من النظام الانقلابي الجديد. ولزيادة واقعية الأحداث يتم اعتقال هيفاء وجدّها، لمنع أية محاولة إيواء أي هاربين أو مطلوبين، مستقبلاً!. ورغم جدية المسرحية وخوضها للسياسة بطريقة محترفة، وعلى أعلى ما يمكن أن يكون التحليل السياسي، إلا أنها لم تفقد ولو لدقيقة واحدة روح الفكاهة والمواقف الظريفة، والحواريات الغنائية الجميلة، والأغاني الرمزية العاطفية، التي كانت تهيلها (فيروز)، نوراً على الأرواح والأعين والأسماع لانتشال المتفرج من هموم السياسة. وقد احتوت المسرحية على عدد من أجمل ما غنت فيروز (يا رايح عكفر حالا- يا شاويش الكركون - شادي - ليلية بترجع يا ليل - حبيتك بالصيف - أنا هويت)، إضافة إلى الحواريات الغنائية الآسرة بين هيفاء وجدّها المحاور المبالغ بإنجازاته، والمولع بالصيد، وبينها وبين معظم أفراد المسرحية، خصوصاً (فيلمون وهبي)، والذي يؤدي دور الشاويش الحالم بصفقة العمر حين القبض على الإمبراطور. وتنتهي المسرحية بخلاصة أهزوجة تقول: (الرعيان بوادي، والقطعان بوادي)، لتؤكد على مدى الاختلاف المضحك المبكي بين عوالم الحكام، وعوالم المحكومين. هذه المسرحية تعتبر تاريخاً للمسرح الغنائي السياسي العربي، والتي لا أظن الزمن جاد بعدها بما هو مثلها عربياً. وللأسف فإن هذه المسرحية لم يتم تصويرها، ولكنك حينما تسمعها مسجلة، فإنك لا تحتاج إلا إلى قليل من التخيل، لتتمكن من حضورها بالألوان عالية الوضوح، وبالأبعاد الثمانية.
مشاركة :