2016/11/24 ما رسالة الفن؟ وهل تتناقض جماليَّةُ الفنِّ مع خيريَّة الأخلاق؟ إن رسالة الفنِّ تتمثَّل في تربية الذوق، وتبصير الإنسان، لا في إغوائه وإفساد ذوقه. فالأصل أن الفنَّ أداة أخلاقيَّة، وله وظيفته الإنسانيَّة، منذ أن كان. والخلاف القديم، الذي دار مثلاً بين (أفلاطون) و(أرسطو) حول المدينة الفاضلة، إنما كان حول: كيفيَّة أداء الفن وظيفته الأخلاقيَّة، وهو ما لم يتفهَّمه أفلاطون، فيما رأى أرسطو ذلك عبر فكرة «التطهير Catharsis»؛ فتصوير الجريمة في العمل المسرحي، نموذجاً، تَرِد لهدفٍ سامٍ من تخليص النفوس من مكبوتاتها، وتوعية الإنسان بالطبيعة البشريَّة وتركيباتها، وإيجاد العِبرة والدرس. أمَّا حين لا يحتوي العمل على أيِّ بُعد من تلك الأبعاد، من قريب أو بعيد، أو حينما يصبح بنقيض ذلك، ترويجاً لأمراض النفوس والعقول وتطبيعاً على التعايش مع تلك الأمراض والتكيُّف مع سوءاتها، فهو حينئذ عملٌ غير أخلاقيٍّ، ولا فنِّي، ولا مبرِّرَ لوجوده، بل هو بصفته تلك جريمة من أخطر الجرائم التي ينبغي أن يعاقب عليها القانون. ما من مثقَّف، بما تعنيه هذه الكلمة من معنى، يميل إلى آليَّات «المنع». بما أن تلك سياسة من لا سياسة له، وحلُّ من لا حلَّ لديه. تماماً كما نفعل في أنظمة مرورنا حين نسدُّ شوارعنا، بعد أن شُقَّت، ونحرِّف مساراتها، بعد أن أُقيمت؛ لأننا، في الحقيقة، عاجزون عن إيجاد الحلول الناجعة. وتلك حيلة المتخلِّف العاجز دائماً، أو مَن يريد أن يُلقي عن كاهله عبء المسؤولية والتدبير، فإذا هو «يقفلها ويستريح»! على طريقة المثل الشعبي (العظيم!)، حول: «الباب الذي يجيء لك منه الريح». ولا غرو، فهناك مجتمعات بأكملها تقفل على نفسها حين تعجز عن ابتكار حلول لنوافذ الريح، أو تكسل عن ذلك. وذلك منهاجٌ تقليديٌّ، يمنع الأمر برمَّته؛ لأن شُبهةً عَرضتْ فيه؛ فإذا هو يُمنع حقٌّ بدعوى باطل، وخيرٌ بشبهة شرّ، وإيجابيَّات كثيرة بحجة سلبيَّات ما، ولو محتملة! وهذا يذكِّرنا بسخرية (ابن رشد) في «فصل المقال» ممَّن حرَّموا الفلسفة، فشبَّههم بمن مَنَع العطاشى من شُرب ماء حتى ماتوا من العطش؛ بحُجَّة أن شخصاً ما شَرِق بالماء فمات! وعلى الرغم من هذا، فإن أيَّ رقابةٍ قمعيَّة، أو أصوات تنادي بحظر بعض الفنون، ستجد في نوعيَّة بعض النتاجات الفنِّية المُسِفَّة- فكراً وأخلاقاً وفنًّا- ذرائع وجودها، وغذاء قيامها، ليقول الناس إنها حينئذٍ مُحِقَّة في المنع، حمايةً للذوق العام، والأخلاق المرعيَّة، والبناء الاجتماعي الذي لا خِلاف في أن الاعتداء عليه مرفوض. وذلك أضعف الإيمان. حقًّا، إن أصحاب الفنون والآداب كثيراً ما يخذلون المدافعين عنهم في عالمنا العربي، حين يُصِرُّ بعضهم على إثبات أنه- بالفعل- بلا مسؤوليَّة، وبلا حسٍّ إنسانيٍّ أو اجتماعيٍّ، بل حين يتعرَّى على الملأ بضحالة ما يحمل من وعي، وما يتمخَّض عنه، باسم الفنِّ والأدب. وهكذا قد يرى كلُّ ذي عينين، إنْ كان وراءهما مسكة من عقل، أن الأمر يختلف لدينا عن ذلك الصراع حول بعض الفنون في المجتمعات المتحضِّرة، لأسباب فكريَّة جادَّة؛ فيشهد أنما لدينا لا يعدو، في الغالب، أمر فئتين: - فئة متزمِّتة تحرِّم كلَّ شيء. لأنها، في الأساس، ذات نزوعٍ طوباويٍّ، كارهٍ للحياة. - وأخرى تقابلها، من صِبيةٍ وشِبه مهرِّجين، يعيشون على تصفيق أمثالهم. وسيتبيَّن أن طامتنا ليست في الفنون وحدها، ولا في الآداب، ولا في الرقيب، وإنما تلك تجليَّات لشبكةٍ أعمق من العُقَد اللغويَّة، والثقافيَّة، والحضاريَّة، تسري في الذات العربيَّة تربيةً وتعليماً ونضجاً وحضارة. وأننا، إذا ما أردنا الارتقاء إلى مجتمعٍ مدنيٍّ حديث، ذي كلمة سواء، فلا مناص من المكاشفة، وسنِّ القوانين، لتكون كلمة الحقِّ والخير والجمال هي العُليا، بعيداً عن المجاملات والخيانات الثقافيَّة المتبادلة. inShare اضف رد الإسم * البريد *
مشاركة :