رها على الأشخاص أن واحدة من أهم خصائص الرائحة هي أنها تقيم روابط مع الأشياء والأشخاص والأمكنة وتسهم في اكتشاف الذات واستنطاق المشاعر واستكناه الرغبات الكامنة. ولعل هذا التأثير هو السبب الرئيس في ارتباط العطور بالقصائد والأغاني فلطالما ارتبط العطر بالذاكرة وبالأحداث والأماكن. يقول الشاعر الفرنسي بودلير لحبيبته «وعلى ضفاف شعرك، أنتشي بالروائح المضمّخة بالقطران والمسك وزيت جوز الهند». ولا أدري كيف تكون تلك المعادلة العطرية لدى بودلير!! فكيف لرائحة القطران الممتزجة بالمسك وزيت جوز الهند أن تثير لديه شجن أو تستحضر شاعرية موقف حميمي ولكننا في النهاية نرد ذلك لطبيعة البيئة التي يعيش فيها الشاعر. بينما الرائحة في أغنية «الأماكن» لمحمد عبده تعكس الشوق والحنين للقاء لم يعد محتماً وحبيبة غادرت أطلال الهوى.. فعطر الأماكن كان ينشد الأمل ويحاور الطيف: «جيت قبل العطر يبرد .. قبل حتى يذوب في صمت الكلام». والكلمات التواقة تلك امتزجت ببراعة مع لحن تماهى مع شوق قاهر يتمسك بآخر معاقل الذاكرة - «العطر» ليكون هو الطرف الأكثر وفاء لذكرى اللقاء.. ولعل صفة الوفاء تلك هي السلوى المتبقية للحبيب الذي غلبه الشوق، فالشوق موجع كما العشق تماماً، وقد عبرت عنه أليسا الحالمة في أغنيتها «حبك وجع».. فذاك الصوت الذي تماهى مع لحن حزين غنى لعطر ما: «مطرح ما كنا نحترق.. صار الجمر بردان.. والعطر عنده وفا أكتر من صحابه».. مرة أخرى يتمسك العطر بالمكان ليصل بالعاشق إلى ذروة الوجع فيحضر العطر ولا يحضر الحبيب ليترك العاشق ممتلأً بالتوق والحنين. وتختلف فلسفة العطر لدى بعض العشاق فالشاعر العاشق أبداً نزار قباني يبوح في أغنية العطر عن رؤيته الخاصة، فالعطر والمرأة لدى نزار كائن واحد لا ينفصلان فهو يقول: «خياري الأول والأخير، في مسألة العطر، هو أنني أحب المرأة الغمامة التي تخرج من تحت الدوش وهي لا تحمل على جسدها إلا رائحة الصابون.. وقطرات الماء». إذن المرأة لدى نزار هي العطر نفسه وهي الرائحة الأمثل في استثارة مشاعره وذاكرته وأحلامه، وارتباطه بها كارتباط الإنسان بالأرض، فطري ومتجرد. لا شك أن العطر يشبه الموسيقى من حيث إن كليهما يتضمّن عنصري الإيقاع والتناغم. فالموسيقى ذات الإيقاعات المتناسقة تطرب الإنسان وتحمله إلى أماكن مختلفة. والعطر ينقل لإنسان مع مسارات الرائحة ودرجات تركيزها. وفي النهاية يبقى العطر هو الموسيقى الموجعة التي تؤنس العاشق بعد فراق معشوقته، فالعطر لا يستعمر المكان فقط، بل إنه يسكن الأنامل ويغفو في العروق كما في أغنية عبادي الجوهر: «في يديني يصرخ عطر من آخر لقا بقاء آه ياريحة أحبابي تغفى عليها الليلة أهدابي».
مشاركة :