أشفق على من يأخذ اضطراباته فيعممها على كل دين، ولا سيّما الإسلام الذي يتحدّى قرآنه أنه لم يأت بما يخالف العقل، ويأمر الناس بالتفكر والتدبر والتعقّل والنظر والاستدلال والسير في الأرض كان لقاءً حامي الوطيس جمعني بصديق مُعنًى بالفلسفة؛ أخذ يحدّثني –بحماسة شديدة– عن كيركجارد، وعن تضحيته بمحبوبته لكي يظفر بنعيم رجعتها إليه؛ لأنه يعتقد (ويفلسف) معنى الرجعى، وأنه يكون أعمق وأقوى ما يكون بعد التضحية، مستدلًا بتضحية إبراهيم بابنه (إسحاق) –عند المسلمين هو إسماعيل لا إسحاق ولكن كيركجارد مسيحي– وبتضحية أيوب الذي صبر على المرض، ضحّى كلا النبيين الكريمين بأحب الأشياء إليهما فعوّضهما الله تعالى بما ضحيا به وبأضعافه. ولهذا –كما يشرح لي صديقي المختص بالفلسفة الغربية– ضحّى كيركجارد بمعشوقته من أجل الله، طمعًا في أن يعوّضه الله، فتعود إليه معشوقته بحبّ مبعوث من جديد، يرجع إليه أقوى مما كان وأجمل وأعمق. غير أن كيركجارد –والحديث لصديقي– لم يظفر بعودة معشوقته إليه، وهنا، شعر بالقلق والخوف والرعدة، و"خيبة الأمل" وسجّل قلقه هذا وقصته هذه في كتاب سمّاه "خوف ورعدة" عبّر فيه عن فلسفة التضحية هذه، وعن تجربته وخيبة أمله التي أصابته بهذا الخوف وذلك القلق. قلت لصديقي إن الحديث عن التضحية والتعويض الربّاني قريب مما في كتب التصوّف الإسلامي، وله جذوره في تراثنا. ففي الحديث "من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه"، ومن أراد وجه الله حقًا فمن شروط إرادته هذه ألا يبتغي عوضًا في الدنيا، بل يريد وجه الله وفقط، ثم إذا أنعم الله عليه بما يحب شكر الله تعالى، وإذا لم يصبه ما يحبه لم يأس على ما فات؛ لأنه فانٍ في الله تعالى ورضاه عن كل ذلك. وإذًا، لم يستجمع كيركجارد الشروط التي بها يمكن أن يعوَّض؛ لأنه –ببساطة– كان همّه العوض لا وجه الله تعالى حقًا، أي أن كيركجارد كان مريدًا للعوض بالذات، ومريدًا لوجه الله بالعرَض، كما يقول المناطقة. ولأنه كان مريدًا للعوض حقًا، عبّر عن خيبة أمله لعدم تعويضه كما كان يرجو. أما المشكلة الثانية التي وقع فيها كيركجارد فهي أنه ظنّ أنه لكي نتلقى العوض فيجب أن نضحّي، وهذا الكلام مردود عليه، فهل على كل إنسان أن يضحّي بكل شيء من غير موجِب ولا هدف؟ إني أتفهّم مثلًا أن يضحّي الإنسان بماله لكي يحفظ عياله، أو يضحّي بروحه من أجل هدف شريف وغاية نبيلة، وقد أتفهّم أن يبتعد الإنسان عن محبوبه إذا كان يشغله حقًا عن أداء واجباته تجاه الله، أو يمنعه من أداء الفرائض، لكنّي لا أفهم أن يضحّي إنسان لا لشيء إلا لكي يحصل على العوض! فهذا إلى العبث أقرب منه إلى التضحية، وهو ليس تضحية أصلًا، بل هو على التحقيق أنانيّة وطمع؛ لأن عينيه، عين ناظرة إلى الله –إن صدق– وعين ناظرة إلى العوض الذي يترجّاه. قلت متممًا: لكنني مع هذا أقول: ربما يكون التعويض الذي ظفر به كيركجارد هو خلود اسمه واشتهاره، بين بني قومه، وغيرهم من الأمم الأخرى، فهأنتذا تختص به، وتقدّم عنه أطروحة، فكفى بهذا تعويضًا إلهيًا له، غير أنه كان يملي –ضمنًا– شروطه على الله في أن يعوّضه تعويضًا محدّدًا، فلم لا يكون تعويضه هذا هو هذه الشهرة الواسعة التي حققها؟ وتلك الأطروحات التي تقدّم عنه في الشرق والغرب؟ بعد هذا الحوار مع صديقي المختص بالفلسفة، تحمّست لقراءة كتاب "خوف ورعدة" لكيركجارد، فبدأت في ذلك منتظرًا ما يحرّك عقلي، أو يستفز وجداني على الطريقة التي حكاها صديقي الكريم، غير أني لم أستشعر شيئًا من ذلك، وكانت الترجمة –بالنسبة إليّ– رديئة الأسلوب، ولست أدري أين العيب؟ أفي الترجمة، أم فيما كتبه كيركجارد نفسه بلغته الأصلية، أم فيّ أنا. ووجدت فيه عبارات متناقضة مضطربة، فهو يصف الإيمان بأنه لا معقول! وهو يعتقد أن هناك تضادا بين الإيمان والعقل، ويصف الجزئي المرتبط بالكلي بأنه لاهوتي، وأمثال هذه العبارات المضطربة، ووجدت في كتابه هذا مصادرات وأحكاما لا أدري كيف يمكن أن تخرج من رأس عاقل! وربما أعذره إذ هو مسيحي مجبرٌ على أن يعتقد أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، وهي عقيدة بالفعل تناقض العقل وتضادّ المنطق. غير أني أشفق على من يأخذ اضطراباته هذه فيعممها على كل دين، ولا سيّما الإسلام الذي يتحدّى قرآنه أنه لم يأت بما يخالف العقل ويأمر الناس بالتفكر والتدبر والتعقّل والنظر والاستدلال والسير في الأرض. عدت إلى صديقي هذا فأخبرته أني لم أستلذّ قراءة كيركجارد، ووجدت في كتابه هذا كثيرًا من الاضطراب والتناقض، فأجاب بأن كيركجارد يعترف بأنه يؤمن باللامعقول، وأنه ليس من العقلانيين، بل هو روحاني، يرى أن القلب يؤمن بأشياء كثيرة مضطربة، متناقضة، تخالف العقل.
مشاركة :