النسخة: الورقية - سعودي لماذا لا تصلح الفيديرالية في اليمن ؟ للأسباب الجوهرية الآتية: 1- أسباب قبلية اجتماعية هي وليدة التكوين القبلي المجتمعي الذي تتشعب جذوره التاريخية في أعماق التربة اليمنية وتتوغل في كل أنحائه، بحيث يكون من الصعوبة بمكان فصل القبيلة بعضها عن بعض أو تجزئتها وتقسيم تكوينها إلى أنصاف أو اجتزاء قطع منها وتوزيعها على بقية الأقاليم، خصوصاً في الحدود ما بين الأقاليم، وما حاصل في محافظة ذمار مثال صارخ لفشل التجربة الوليدة، حيث ضياع الهوية والانتماء النابع من مكون القبيلة أصلاً، لا يمكن بأي حال من الأحوال بعثرته أو انفصاله. بالإضافة إلى أن سيادة كل قبيلة طاغية على سيادة الدولة، بحكم الأعراف والعادات والتقاليد، فالشيخ يفرض سلطته الحاكمة العرفية على حدود كامل قبيلته من دون نقصان. وهناك قبائل من مأرب تمتد جذورها إلى شبوة والبيضاء، وقس على ذلك في بقية ربوع اليمن. 2- أسباب اقتصادية، فكما هو متعارف عليه في نظام الأقاليم، لكل إقليم السيادة المطلقة والحكم الذاتي كامل الصلاحية، وعليه فهو بحاجة ماسّة إلى نظام إداري وحكومي مستقل ومتوازن بكل مرافقه ومؤسساته وسلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية، وهذا الكمّ الهائل من الجهاز الحيوي العصبي الحساس في دماغ الدولة الفتية بحاجة إلى ميزانية مهولة تؤسس اللبنة الأساسية والبنية التحتية القوية لمواجهة التحديات المستقبلية، من مقرات ومؤسسات وبرلمان ورئاسة وزراء وهيئات تابعة لها، ناهيك عن المشاريع الخدمية والإنمائية والاحتياط النقدي المتوافر واللازم لسد احتياجات الإقليم، بحيث يكون قادراً على استيعاب العمالة والتوظيف في المركزية المفرطة- المجحفة في حال افتقار مقوماتها وأسسها المتينة. 3- أسباب ثقافية. المجتمع اليمني لم يصل إلى مرحلة النضج الثقافي والتأهيل المطلوب لتقبل فكرة الأقلمة والتعايش معها بصورة توافقية متمدنة، فبعد خروجه من أزمنة الديكتاتوريات العجاف وافتقاره إلى نظام جمهوري عادل مصاحب لفقدانه أولويات الديموقراطية، التي لم يعايشها بشكلها الكامل والملموس ولم تنغرس بعد في المفهوم الثقافي والحياتي المعاصر ولم يطبقها بشكل يومي في مختلف المرافق والمؤسسات، فدولة عاجزة كلياً غير قادرة على لملمة الأوضاع من الانهيار كيف لها أن تؤسس لتجربة وليدة ونظام جديد بحاجة ماسّة إلى أسس الدعم والخبرة وأرضية صلبة وأعمدة متناسقة من الكفاءة والانطلاقة الكبيرة في مفهوم الدولة، فالفيديرالية تأتي متناغمة مع متطلبات الشعوب والحاجة إليها كخيار مطروح للأفضل ولم تأت من فراغ أو هروب إلى أمام لإضافة المزيد من المشكلات والعجز القائم. 4- أسباب سياسية، ولعلها الأهم في بقية الأسباب مجتمعة –ذات الطابع السياسي-، فالجو السياسي الملائم والمتناغم مع التوافق الشعبي يمثل أرضية خصبة ومريحة لنشوء براعم الفيديرالية وبزوغ الأقاليم في صورة مثالية وناضجة، الخيار المطروح أو المفروض في اليمن نموذجاً يفتقد إلى هذا العامل الأساس. والمهم كون معظم أطياف المجتمع اليمني تعلن رافضة، وإن وجدت فمتوجسة الشيء الكثير من هذا الغول الآتي فجأة ومن دون سابق إنذار ولا معرفة سابقة بهوية الضيف الجديد ونواياه، مع عدم الدراية الكاملة بملمات الإنتاج المستقبلي على أرض الواقع وإمكان تطبيقه وإنجاحه، فالجنوب يرفض الفكرة –جملة وتفصيلاً- ما يدفع أطيافة الحركية والثورية الى الانجرار إلى مربع الانفصال –المعروف سلفاً- والمطالبة باستعادة الدولة. إنه لمن الإجحاف بمكان أن تعالج القضية الجنوبية بالكي والسلخ والتفتيت بعشوائية، في ظل وجود إمكانات علاجية أخرى ناجعة ومثمرة. 5- أسباب أمنية وعسكرية، وما سيتبعها من ميزانية مهولة لإنقاذ الجيش من شبح التفكك أو إعادة رسمه بطريقه مغايرة، فإذا كانت الهيكلة أضعفت من القدرة العسكرية والتأهلية للجيش اليمني ووضعته مجدداً في مرمى «القاعدة» وهدفاً سهلاً لها، فكيف سيكون الحال في وجود الأقاليم المتفرقة بإمكاناتها الضعيفة؟ وكيف سيتم التوزيع لجميع الوحدات في مختلف الأقاليم أو إعادة هيكلتها مرة أخرى لتستوعب أبناء كل إقليم على حدة، بما يعني عملية طحن ممنهجة وإضعاف قسري سيؤدي إلى إنشاء دولة رخوة تزداد هشاشة إن كانت هشة في واقعها. ربما طرح الفيديرالية بأجنحتها المحلقة في سماء المدنية والـحداثة التي لا تتناسب كلياً مع جاهزية اليمن، يعتبر بمثابة انتحار وهروب الى الأمام ويضاعف المشكلة ويفاقمها، حيث إنه تم طرحها من دون رؤية توافقية كافية وناضجة ومن دون التمعن في مستقبل الإقليم المقبل وإمكاناته المتاحه، وحين كان هذا الخيار مطروحاً لمعالجة القضية الجنوبية افتقد الكثير من المنطق والدراسة المتأنية والصلبة، كمن يُعالج بالدواء الخطأ حالة مرضية تستدعي التأني والإسعاف المدروس والتشخيص الصائب. كان النجاح حليف الفيديرالية في أكثر الدول تقـــدماً بسبب البنية الاقتصادية المؤهله بجدارة لإنشاء نظــام مغاير وبديل، كما في الولايات المتحدة وألمانيا، والإمـــارات ليست ببعيدة عن مسار هذه الدول الرائدة، التـــي تمكنت من صهر جميع العوامل التي رافقت النظام الولـــيد وقامت بسد العجز وتوافرت فيها الأرضية الخـــصبة لبنـــاء نظام الولايات المتحدة تحت النظام الحاكم للدولة ككل، في نتيجة متوازية ومعادلة صحيحة مـــن تجميع الشمل في نظام جديد وإن كان فيديرالياً. لا العكس، كما هو حاصل في اليمن. إن الهروب من الانفصال إلى التقسيم وتجزئة الوحدة إلى أشبه ما يكون بدويلات متناحرة في حال فشـــلها، مع تواجد أقالــــيم غنية وأخرى فقيرة وغياب الدولة والتوزيع العادل للثـــروات، ستذكي نار الحروب الطائفية والمذهبية -إن وجدت- وتستغل «القاعدة» انكماش الدولة وغياب السلطة المركزية إلى التمركز فيها والتخطيط، وربما إعـــلان أقاليم كولايات وإمارات إسلامية، كما حصل سابقاً في أبين ورداع –ليس ببعيد-، لسهولة بلع الإقليم وصغر الدوله وضعفها، وإذا انفرط العقد فحينها ستنهار الدولة كلاًّ تباعاً لانهيار الأقاليم وفشل التجربة برمتها. إن اليمن وإن كانت ثورته لم تر النور بعد، تراجع إلى مرحلة التقسيم والتهميش وخلق بؤر صراعات وتناحر والقبول بالأقل الممكن في سبيل البحث عن الدولة التي ضاعت بصعود قيادات وكفاءات هشة وغير مؤهلة ولا قادرة على البناء والنماء، أضف إلى ذلك المحاصصة والتقاسم الحكومي الذي أغفل الوطن وجعله آخر اهتماماته، وبذا يضيع مفهوم الدولة فتخرج سائبة من بين أيديهم في سبيل البحث عن الدولة وادعاء الحفاظ عليها، وهي مسألة تشبه إلى حد كبير ملابسات اختفاء القارة أطلانتس التي لم تكن موجودة بالفعل. صالح السندي - ألمانيا
مشاركة :