أشار محافظ بنك الكويت المركزي، الدكتور محمد الهاشل، إلى أن القطاع المالي الذي يعتبر في الأساس «صناعة معرفية» يواجه تحولاً جذرياً، مدفوعاً بما تشهده التكنولوجيا من تقدم وتطور، مبينا أنه على الرغم من أن الابتكارات والتطورات مثيرة في طبيعتها، لكنها تحمل في طياتها مخاطر وتحديات جسيمة. وشدّد الهاشل خلال الاجتماع السنوي الـ 12عالي المستوى، لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أبوظبي، على أهمية المحافظة على الاستقرار في الأوقات المضطربة، وذلك عبر تسليط الضوء على قوتين مؤثرتين في عالم المال، الأولى هي الثورة التكنولوجية، وما نتج عنها من منافع ورافقها من مخاطر، والثانية الإجراءات الأساسية التي تم اتخاذها لتقوية مرونة النظام المصرفي على مقاومة الصدمات. وبين أن مهمة ضمان المرونة لنظام مصرفي قادر على تحمل الصدمات بكافة أنواعها ومصادرها ليس بالأمر السهل، وأن عملية مقاومة البنوك للصدمات ليست نهائية، أخذاً في الاعتبار أن البيئة الاقتصادية الضعيفة ستضع أخيراً النظام المصرفي تحت ضغوط كبيرة قد تؤدي إلى تضاؤل قوته مع مرور الوقت. وقال إن القطاع المصرفي يعد عنصراً من عناصر المحيط الاقتصادي الكلي، ما يتطلب عدم إغفال الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية الضرورية، والنظر إلى الإطار الاقتصادي الأعم والأشمل الذي يعمل فيه نظامنا المالي. وأوضح أنه بالنظر إلى الحلقة المتشابكة بين الاقتصاد الكلي والقطاع المصرفي، فإن الجهات الرقابية لا يمكن أن تكون السبيل الوحيد للمحافظة على الاستقرار المالي، فهناك أيضاً ما لا يقل أهمية عن ذلك، مثل الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية الضرورية لبيئة اقتصادية كلية مستقرة التي يمكن أن يزدهر فيها القطاع المالي. ورأى أن الابتكارات التكنولوجية أطلقت العنان لتغييرات جذرية في الطريقة التي ندير بها أعمالنا التجارية، وكيفية تفاعلنا مع بعضنا البعض، أو استهلاكنا لمختلف المنتجات والخدمات، لافتا إلى أن القطاع المالي الذي يعتبر في الأساس «صناعة معرفية» يواجه تحولاً جذرياً، مدفوعاً بما تشهده التكنولوجيا من تقدم وتطور. وأكد على الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في توفير الخدمات المالية الرسمية إلى ملايين العملاء الذين لا يمكنهم الوصول إلى الخدمات المصرفية بشكل أو بآخر، مشيرا إلى أنه وفقا لإحصائيات البنك الدولي، فإن أفقر 20 في المئة من سكان العالم أصبح لديهم على الأرجح القدرة على امتلاك هاتف محمول، أكثر من قدرتهم الحصول على المياه النظيفة أو الصرف الصحي. وتمكنت العديد من الدول خلال السنوات الأخيرة في إطار الاستفادة من هذه الفرصة، من توسيع القدرة للنفاذ إلى التمويل، وتراجعت نسبة البالغين الذين لم تُسنح لهم فرصة الاستفادة من خدمات النظام المالي الرسمي عالميا بنحو 20 في المئة خلال الفترة من 2011-2014 فقط. وأوضح الهاشل أن كل هذه العوامل المشجعة تؤكد أن المعرفة الرقمية توفر فرصة غير مسبوقة لتحسين الحصول على التمويل لملايين من الناس الذين حرموا من تلك الخدمات لفترات طويلة، كما أن التطورات البرمجية مثل «blockchain» تؤدي إلى تحول في الطريقة التي نتحقق فيها من المعاملات وتنفذ بها العقود، لذلك، فإن السماح لأي جهة بالتعامل دون وسطاء مركزيين سوف يمكن من تقليص التكاليف، وتخفيض عدم الكفاءة وتحسين خدمة العملاء. ونوه الهاشل بأن هناك مجموعة ابتكارات أخرى تعيد تصميم أساليب تحويل الأموال، أو الحصول على الائتمان، لافتاً إلى أن المحافظ النقّالة «Mobile Wallets» تسمح بإجراء المدفوعات عن طريق الهواتف الذكية، وأصبح الإقراض المباشر (شخص لشخص) «peer-to-peer lending» يوفر مصادر جديدة للتمويل، كما أصبح المستشارون الآليون «robo-advisors» يوفرون المشورة المالية للعملاء. مخاطر وبين الهاشل أنه على الرغم من أن كل هذه الابتكارات والتطورات مثيرة في طبيعتها، إلا أنها تحمل في طياتها تحديات جسيمة، إذ أصبحت مخاطر الأمن الإلكتروني تشكل بصفة متزايدة، جزءاً أساسياً من المخاطر التشغيلية للبنوك، فحوادث القرصنة المختلفة حول العالم توضح بأن عمليات الاحتيال والتزوير يمكن أن ترتكب الآن عن بعد وبشكل سريع وعلى نطاق واسع، ورغم أن تلك الحوادث لاتزال محدودة النطاق حتى الآن، إلا أنها تظل ذات مخاطر عالية سواء من الناحية المالية أو من حيث الضرر على سمعة المؤسسة. وذكر أن الملاحظ قيام شركات التكنولوجيا المالية أو «Fintechs» بتفكيك أجزاء من سلسلة الخدمات المالية والعمل على توفير الخدمات المالية مباشرة للعملاء، وبصرف النظر عن زيادة حدة المنافسة والضغط على أرباح البنوك، فإن شركات التكنولوجيا المالية تقوم بنقل جزء من أعمالها المصرفية إلى نظام الظل المصرفي الذي لايزال غير منظم، أو ربما منظماً بشكل طفيف، وبالإضافة إلى ذلك فإن إقراض (شخص لشخص) المدعوم بالتكنولوجيا والتمويل الجماعي قد يؤدي إلى تفاقم الدورة الاقتصادية وحجم أعمال الظل المصرفي. وخلُص الهاشل إلى أن الابتكارات بطبيعتها ذات قوة مؤثرة قد تسبب قدراً كبيراً من عدم الاستقرار، وبالتالي يواجه المنظمون مهمة شاقة ومضنية في الحفاظ على أمن واستقرار الأنظمة المالية، وبما يضمن في ذات الوقت استمرار الاستفادة من الكفاءة والميزات التي توفرها التقنيات الحديثة. ولضمان ذلك، علينا تعزيز قدرتنا على كشف ومراقبة وتخفيف المخاطر الناجمة عن الابتكارات التكنولوجية، وهو ما يتطلب التعاون الوثيق مع القطاع المصرفي، بالإضافة إلى التعاون بين المنظمين سواء داخل الدولة الواحدة أو بين الدول بعضها البعض، بيد أن كل تلك الجهود غير كافية على الإطلاق، حيث نحتاج لتنحية الشعور بالأمان جانباً ونتجه للتعاون مع الأطراف الأخرى ذات المصالح، وعلى وجه التحديد شركات التقنيات نفسها. وأضاف «لا نسعى كمنظمين إلى تقويض الابتكارات التكنولوجية، ولا نرغب من جهة أخرى بتقويض الاستقرار المالي، إذ ان الأمر يعد توازنا دقيقا ينبغي تحقيقه، ما يجعل الأمر شبيهاً بالدخول إلى مجالات غير مألوفة، حيث نكون بحاجة إلى التمتع بالمرونة والقدرة على التكيف والاستباقية بما يضمن جني أكبر قدر من المنافع التي توفرها الابتكارات المالية، والحد في ذات الوقت من السلبيات». الإصلاحات التنظيمية وشدد الهاشل على أن الإصلاحات التنظيمية «مكلفة» إلا أنه لا مناص منها، إذ تعتبر نظم الرقابة المصرفية من المجالات الرئيسية الأخرى التي شهدت، ولا تزال تشهد إصلاحات بعيدة المدى، وانطلاقاً من الدروس المستفادة من تداعيات الأزمة المالية العالمية، فإن التعليمات المصرفية التي تقودها لجنة «بازل» شهدت إصلاحات شاملة، إذ بُذلت جهود مضنية لتحسين مرونة وقدرة النظام المصرفي في كل أنحاء العالم على مقاومة الصدمات. وأكد أنه لا شك مطلقاً في ضرورة وأهمية هذه الإجراءات، خصوصا في ظل عدم اليقين بشأن توقيت ومصدر حدوث الصدمة المقبلة، وأخذاً بالاعتبار الضغوط التي لم تجد الأسواق المالية مفراً من مواجهتها في الآونة الأخيرة، ففي 2013 كانت بداية وقف سياسات التيسير الكمي في الولايات المتحدة، وشهد 2014 إنهيار أسعار النفط، وفي 2015 كان إعادة التوازن للإقتصاد الصيني، وشهد العام الحالي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقال «لاشك أن تلك الأحداث وإن كانت متباينة من حيث مصدرها الجغرافي، أو من حيث أصل الأسباب التي أدت إلى حدوثها، إلا أن هناك قاسم مشترك يربطها جميعاً، وهو أنها أدت إلى اضطرابات بالغة في الأسواق العالمية، وهذه أمثلة قليلة للتعبير على الأحداث التي يمكن أن تشكل مصدراً للصدمات التي قد تؤثر على استقرار الأسواق المالية». وتأسيساً على ما تقدم، فإن مهمة ضمان المرونة لنظام مصرفي قادر على تحمل الصدمات بكافة أنواعها ومصادرها ليس بالأمر السهل، إذ إن هذه الصدمات ليست خارجية المصدر فقط، بل ان النظام المصرفي نفسه في حالة من التغير المتواصل وذلك وسط مناخ من المخاطر المتطورة والمتزايدة والتي ترجع في جزء منها إلى الابتكارات المالية التي أشرت إليها. وعليه فإن ذلك الوضع أصبح يستدعي ضرورة العمل على تطوير الإطار التنظيمي للقطاع المصرفي بشكل دائم ومستمر، ومن هذا المنطلق، قام بنك الكويت المركزي خلال الأعوام الأخيرة بتحديث الأنظمة القائمة لديه بما يتماشى مع أفضل الممارسات العالمية، وذلك بالإضافة إلى تبني وتطبيق المعايير الرقابية الجديدة الصادرة عن لجنة «بازل» للرقابة المصرفية. ولفت إلى ان الرحلة لاتزال طويلة، والتحديات جسام، ولكننا عازمون على مواصلة الجهود مع الاستفادة من خبرات أصدقائنا ببنك التسويات الدولي، وكما هو الحال بالنسبة لدول أخرى أيضاً لديها نظام مصرفي مزدوج، فإن البنوك الإسلامية تتمتع بتواجد وحضور كبيرين في الكويت، ولكن وجدنا أن هناك استفادة محدودة من تطبيق حزمة معايير بازل (3) بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية. وزاد«نتيجة لذلك، تركت معظم الجوانب المهمة من إصلاحيات «بازل 3» لتقديرات وقرارات الجهات التنظيمية في كل دولة على حدة لتطبيق أفضل القواعد على البنوك الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك، فإن استخدام تلك التقديرات، رغم افتراض حسن النية فيها، يُحدث حتماً فروقاً بين مختلف الدول، وخصوصا بالنسبة للتمويل الإسلامي، حيث لا يوجد تفسيرات شرعية موحدة وثابتة مما يجعل من المهمة أمراً أكثر صعوبة، لذلك، فقد نشهد أساليب مختلفة في تنظيم البنوك الإسلامية بمختلف الدول، فضلاً عن مخاطر الالتفاف على التعليمات الرقابية». تعزيز القدرة الإشرافية شدد الهاشل على أنه في المستقبل سيكون هناك حاجة لإدراك أن ضمان استقرار وتكيف النظام المصرفي لا يمكن أن يترك للتعليمات الرقابية وحدها، لذلك، فإننا في حاجة لتعزيز القدرة الإشرافية من أجل استكمال الأنظمة الرقابية المتطورة، مؤكدا أنه فقط من خلال الإشراف الفعال يمكننا التأكد من التزام البنوك بالتعليمات، كما أن الإشراف الرقابي يمنحنا القدرة والسرعة على تخفيف المخاطر الناشئة قبل أن يستفحل أثرها. ورأى الهاشل أن الإقرار بصعوبة رقابة كل جانب من جوانب النظام المصرفي يحتم على البنوك تحمل مسؤليتها الأساسية عن قراراتها وممارستها المصرفية، إذ إن البنوك باعتمادها على ثقة الجمهور، لا يمكنها أن تتقبل وتتحمل تداعيات العمل في ظل حوكمة ضعيفة، وغياب لثقافة المخاطر، ولذلك قمنا بإصدار توجيهات للبنوك لجعل مستوى الحوكمة لديها أكثر قوة، وذلك بدعم من ضوابط رقابة داخلية قوية، وإدارة مخاطر حصيفة، وامتثال دقيق للقوانين والنظم والتعليمات التي تنظم أعمال هذه البنوك. ومع إدراكنا بأن الامتثال لإجراءاتنا التنظيمية ينطوي على تكلفة مالية بالنسبة للبنوك، إلى أن تكلفة أي أزمة مالية تفوق ذلك بكثير، أخذاً بالاعتبار أن تكلفة تلك الأزمات لها تداعيات تتخطى البعد المالي، وإزاء ذلك، فإنه من الحكمة والعقلانية تعزيز قدرة مصارفنا في أوقات الرواج، وكلما سنحت الأوضاع. واعتبر أن الأسلوب الفعال الذي اتبعه البنك المركزي بما اتخذه من إجراءات استباقية في إطار سياسة التحوط الكلي، قد أتى ثماره بالفعل، وهو ما يتضح من قدرة البنوك على دخول حقبة هبوط أسعار النفط من موقع قوة.
مشاركة :