بطاقة شخصية: ألبرتو مانغويل، الرجل المكتبة، أرجنتيني الأصل كندي الجنسية، عاش مطلع حياته في بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين، ثم هاجر إلى كندا، ثم فرنسا، ويقيم الآن في نيويورك. قارئ نهم، وأديب بارع، ألّف عدة كتب ذات صلة بالقراءة والمكتبات، مثل: تاريخ القراءة، المكتبة في الليل، يوميات القراءة. وألف روايات ودراسات أخرى لم تترجم إلى العربية. ذئب وسط قطيع من الكتب: أثناء النهار أكتب، وأتنقل بين الكتب متصفحاً، معيداً ترتيبها، أفسح للحديثة منها مكاناً، وأعيد تشكيل الأقسام لتوفير حيز جديد. الكتب الجديدة الوافدة يرحب بها بعد فترة من الفحص. إذا كان الكتاب مستعملاً أدع كل الإشارات التي دونت عليه على حالها، الآثار التي يتركها القارئ السابق: رفاق السفر الذين سجلوا مرورهم بالتعليقات المخربشة، اسم ما على الصفحة البيضاء الفارغة في بداية ونهاية الكتاب، بطاقة قطار لتأشير صفحة معينة. سواء كانت قديمة أو جديدة، الإشارة الوحيدة التي أناضل لإزالتها من من كتبي (وغالباً دون نجاح يذكر) هي لصقة السعر التي يضعها بائعو الكتب الحقودون على ظهر الكتاب. هذه الدملة الشيطانية الصغيرة لا تستأصل بسهولة، فهي تخلف ندوبا مجذومة وآثاراً من مادة لزجة يلتصق بها الغبار والزغب بعد فترة من الزمن... (المكتبة في الليل، ٢١) ومنذ الصبا.. كان حلم مانغويل أن يغدو أمين مكتبة! وبعدما انحدر من قوة الشباب إلى ضعف الشيخوخة وزالت شمس عمره عن كبد الخمسين من العمر.. صار على نحو ما أمين مكتبته الشخصية الهائلة التي تضم منزله بدل أن يضمها المنزل! ومنذ الطفولة.. كان غرام مانغويل هو الكتب.. في الثامنة من عمره كان في غرفة الطفل ألبرتو مئة كتاب يعيد ترتيبها وتصنيفها باستمرار، وفي مراهقته كانت غرفته قد ضاقت بما فيها من كتب، حتى السرير كان أسفله مليئا بالكتب، وحتى الزوايا والأرضية، إضافة -بالطبع- إلي سطح المكتب.. وحين اتسع مانغويل وصار له بيت.. ضاق البيت بالكتب أيضاً.. حتى إن أطفاله قالوا له: إنهم بحاجة إلى بطاقة عضوية في مكتبةر كي يستطيعوا دخول منزلهم، ذلك المنزل الذي اكتظ بالكتب.. في الممرات، والأقبية، وغرفة النوم، والشرفة، والحمام، والمطبخ! وصاحبنا ألبرتو -بحرصه الدائم على الترتيب وإعادة التريب، واقتناء المزيد من الكتب، لا يلبث أن يغير مكان القصص البوليسية من قبو غرفة النوم إلى ممر في الطابق العلوي بعدما ضاق بها المكان القديم. ويؤدي هذا النقل إلى ربكة في رفوف كتب الأدب الفرنسي التي زاحمها هذا الجيش البوليسي العرمرم! فيضرب ألبرتو أخماساً في أسداس حتى يستطيع أن يحل ذلك الإشكال الجديد. ريثما يطرأ إشكال آخر! إذا تغلغل فكر المرء في طرف * من علمه غرقت فيه خواطره وفي غرامه الأسطوري بالكتب.. وهوسه بشم رائحة الورق، وتقليب الصفحات.. لا يعتد مانغويل بالقراءة الإليكترونية، فهو يرى "أن تصفح كتاب والتجول بين الرفوف هما جزء حميمي من فن القرادة ولا يمكن أن يستبدل به تقليب شاشةفالأمر سيشبه الاستعاضة عن السفر بدليل رحلات مصور" (انظر: المكتبة في الليل، ٧٤). إنه لتطرف في تقديس الشكل المبدئي للكتاب، وظاهرية في التمسك بالشكل المعتاد لأوعية المعرفة.. وأظنه لم يهن على مانغويل أن يستعاض يوماً عن تلك الرفوف المكلفة بمجرد وهم إليكتروني لا يلمس، بل يرى وحسب من وراء شاشة؛ فهو أشبه بسراب يحسبه الظمآن ماء، وقارئ الكتاب الإلكتروني عنده كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه! ولا أتوقع أن مانغويل -رغم عشقه للتصنيف والترتيب، كان يقرأ وفق خطة مرسومة، أو يرتب الكتب حين يود قراءتها ترتيباً منهجياً؛ فولعه بالاقتناء والتزويد الدائم لمكتبته بجديد الكتب يجعله عاجزاً عن قراءة بتلك الصفة المثالية.. ولو في الأحلام.. ولا يشعر ألبرتو بالذنب حيال كتبه التي كدسها في مكتبته دون أن يقرأها؛ فذلك عمل خارق.. لا يتوهم القيام به إلا أخرق! لقد حلمت بمكتبة طويلة واطئة حيث يكون هناك دائماً ظلام كافٍ يطوق ضوء مصباح المنضدة، ليوحي بأن الليل يخيم في الخارج، وهي مكان مستطيل الشكل تقابل فيه الجدران واحدها الآخر، وأشعر فيه على الدوام كما لو أن الكتب على الجانبين هي تقريباً على مدى ذراعيّ، فأقرأ كيفما اتفق، متيحاً للكتب أن تتوحد بشكل حر، وتقترح روابط بقرابتها، ويدعو واحدها الآخر عبر الحجرة، الشكل الذي اخترته لمكتبتي ينشط عاداتي في القراءة (المكتبة في الليل، ١١٥) المنهجية في القراءة عند مانغويل هي منهجية الانجراف مع تيار المصادفة.. حيث الفوضى الخلاقة.. إذ كل الطرق تؤدي إلي دهشة المعرفة، ويبدو أن العلوم والمعارف أوسع من أن يحيط بها إنسان بما أتيح له من مدى زمني قصير، ولو واصل الليل بالنهار قارئاً.. لذا يشبه مانغويل دجاجات جاره.. وهي تقفز في الفناء.. "ناقرات هذه البقعة أو تلك وهي مثارة لكثرة الطعام المعروض أمامها، مثل طالب علم مخبول في مكتبة" (المكتبة في الليل، ١٦) القراء أقلية في العالم، وفي وسط هذه الأقلية.. يبقى ألبرتو مانغويل علماً لا يُنسى بسهولة، لا لأنه أكثر القراء ذكاءً، ولا لأنه أعظم ملاك الكتب براعة، ولكن لأنه كان أكثر جلداً على التعبير عن حبه للكتب في كتبٍ كتبها بيراعه غازل فيها المكتبات، وعبر عن عشقه ذاك بتأريخ للقراءة ربما لم يسبقه إليه سابق من الناس. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :