رؤية فنية\بقلم: مها السراج \ لولا الجمال ما كان العقل

  • 12/11/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قبل أن يحل الشتاء وتفيض الأنهار فتغرق السنابل وأشجار التين والعنب، يدعونا نيتشه في كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى قطف التين والانغماس في تذوق الجمال، فها هو الخريف يأتي لينذر بسقوط آخر حبة تين. إن فكرة الجمال تكاد تقترب من كونها مجردة، لولا أن اشتغل عليها الشعراء والنحاتون والفنانون فتحققت مكامنها وبدت تفاصيلها وانكشف عنها جزء من غموضها، ففي الجمال غموض يحمل تفسيراً لكل مبهم في الحياة والإنسان. لقد رأى ألبيرت أينشتاين في الإحساس بالغموض نافذة تطل على الفن والعلوم وارتبطت في رؤياه أحاسيس الجمال بقوانين الطبيعة والفيزياء، فالعقل لا يستنير إلا إذا استيقظت الأحاسيس والمشاعر، وبهذا فإن النهوض والبناء للمجتمعات والحضارات لن يتم قبل أن توجه الأحاسيس وتحفز الرؤية والمشاعر الجمالية لدى الأفراد. وقد وضح «شيلر» الشاعر والفيلسوف والفيزيائي الألماني ذلك في رسائله عن التربية الجمالية للإنسان فقال: «باختصار: ليس هناك أي طريق آخر لجعل الإنسان الحسي عاقلاً سوى جعله قبل ذلك إنساناً جمالياً». وهذه ليست فلسفة طوباوية وغير قابلة للتحقيق، فالفطرة الحسية لدى الإنسان قادرة على تذوق الجمال وفهمه وتفسيره بالعقل وإنما ما يحتاج إليه الأفراد هو التحفيز لتلك الفطرة وشحذها لتمارس مهمتها «العفوية» إن صح القول. ومنذ عصور ما قبل التاريخ وإلى عصر النهضة، كان هناك خيط رفيع يفصل ما بين الفن والعلوم، وقد أعتبر كلاهما عناصر مهمة للثقافة، وكلاهما حركه الإبداع، رغم أن عصر النهضة شهد انفصالاً في التوجهات الإبداعية إلا أن عصرنا الحالي يشهد ارتباطاً وثيقاً ما بين العلوم والفنون، فكثير من الفنانين بدأوا بدراسة وتوظيف الأدوات والأفكار والنظريات العلمية والتقنية والخروج من النمطية التقليدية التي انحصرت فيها إبداعاتهم، وقد خرجت مدارس فنية كثيرة من رداء النظرية العلمية، كالتكعيبية على سبيل المثال، والتي كانت وليدة التقاء بيكاسو بأينشتاين وتأثره بالنظرية النسبية وحسابات الزمن. وتكشف بعض أبحاث الدماغ والأعصاب الحديثة نتائج مذهلة حول تأثير الفن على تطور الدماغ حتى ما قبل الولادة. فالتلامذة دون سن العاشرة الذين يتلقون تدريباً على الفنون كالرسم والموسيقى وغيرهما ينمون في الحقول الكهربائية والكيميائية المتصلة بالخلايا العصبية بارتباطات تدوم مدى العمر وتترجم إبداعات في شتى المجالات الفنية والعلمية وغيرها. وقد بدأت تظهر مؤخراً فروع في التعليم يتداخل فيها الفن والعلم مثل الرسم الحاسوبي والذي يتداخل فيه الفن والتأليف وفن الألوان مع علم الحاسوب والرياضيات وغيرها. والتطور الأوضح يظهر في حقل الموسيقى، حيث أصبح يتداخل علم الفيزياء مع الرياضيات والتأليف الموسيقي مع الإنتاج ونظريات الصوت. من ألواح «الإلوما إليش» وجداريات الكهوف الأولى إلى برامج الذكاء الاصطناعي، ومن أثينا إلى الأندلس مروراً ببغداد وباريس، ومن أرسطو إلى عمر الخيام وزرياب وآينشتاين ودافنشي، تشكلت مراكز للإبداع والفكر الإنساني، الإبداع العلمي والتقني والفني.

مشاركة :