انشغلت بعض الوقت بما فعله باسم يوسف الطبيب ومقدم البرنامج الساخر الذي صار هو الأشهر في مصر والعالم العربي. أقصد ما فعل من سطو أو اقتباس أو ما تشاء لمقال كاتب إنجليزي يهودي الديانة عن الصراع بين روسيا والغرب. وكان انشغالي ليس رغبة في إدانته، بل حيرة مما فعل، فهو ليس في حاجة إلى ما فعل. تابعت المناقشات وكتبت في المسألة بهذا المعنى وكيف أنها وصلت إلى ضفاف بعيدة عنها؛ مثل التطبيع باعتبار الكاتب يهوديا قام بالهزار معه على تويتر قائلا «أنت هكذا ستتهم بالتطبيع» وكيف التقط بعض الغاوين للهجوم على باسم يوسف واعتبروا الأمر تطبيعا حقا، بل وأن إسرائيل وراء المسألة وهكذا شتائم في باسم والكاتب «بن جودا»، ما دعاه للدهشة من هذا القدر من معاداة السامية ــ كما قال. لكن ضاع مني أمر لم أنتبه إليه. فكرت ولم أصل إلى شيء مقنع لماذا يريد باسم أن يكون كاتبا وهو مقدم البرنامج الذي بلغت شهرته الآفاق. وخصوصا أننا لم نعرفه من قبل كاتبا في الشأن السياسي إلا بعد أن لمع اسمه على الشاشة. ما الفائدة التي ستعود عليه من ذلك وهو لن يحتل أبدا مكانا بين فقهاء السياسة والاجتماع وما أكثرهم في مصر. لم أعتبرها طمعا في الحسنيين. أن تكون جماهيريا ولك أيضا جمهور من النخبة السياسية؛ لأنه في الحقيقة برنامج باسم يوسف يتابعه النخبة والعامة. لكن جمعتني جلسة مع عدد من الأصدقاء.. قال أحدهم، وهو الكاتب الشاب صبحي يوسف، أن باسم فعل ذلك لأنه يطمع أن يكون كاتبا. لم أقتنع. ثم قال الكاتب محمد أبو رحمة، وهو مترجم وباحث في التاريخ الإسلامي، حين رأى دهشتي أن الكاتب المصري عند الفراعنة مهنة عظيمة. وانتبهت إلى هجوم آخر بدأ ينهال على باسم يوسف من بعض مقدمي البرامج، وهو قولهم أنه لا يكتب أصلا وأن مقالاته يكتبها له شباب مجهولون نظير مبلغ مالي يصل إلى ألفين من الجنيهات عن المقال. طبعا لم أصدق هذا الكلام؛ لأن أهم من قالوه مذيع ليس محل ثقة في الأوساط الصحفية والإعلامية. ووجدت نفسي أبدأ بالاقتناع بأهمية الكاتب. ففي حياتي ومما قرأت عرفت حالات كثيرة من الأغنياء في بلاد عربية وجدوا من يكتب لهم الشعر. وفي الصحافة المصرية اشتهر عدد ليس بالقليل من رؤساء التحرير؛ خصوصا في عصر مبارك بوجود من يكتب لهم من العاملين في الجريدة، حتى أن أحدهم كانت صحيفته تنشر أكثر من عشرة إصدارات بين صحف ومجلات، وكان له في كل إصدار أسبوعي أو يومي مقالة افتتاحية. كنا نعرف ذلك ولا نعلق. وأنا لا أعلق على مثل هذه الأشياء لسببين، أنه ما دام كاتبا ارتضى أن يكون في الظل من أجل المال فلا يجب الدفاع عنه أو الهجوم عليه، كما لا يحق له أن يقول ذلك يوما ما أو يشكو منه. طبعا لن يفتخر! والسبب الثاني أني لا أعلق على أعمال أهل الصحافة، فأنا اخترت مبكرا أن لا أعمل بها وإن كنت أكتب فيها من الخارج. أعرف أني غير مخلوق لها. النسيان هو مرفئي أكثر من الذاكرة حتى أنني كنت معروفا في عملي بالغياب والإجازات أكثر من الحضور. وفي مرة ذهبت للعمل فاتضح أنه مغلق لأن اليوم 23 يوليو وهو إجازة رسمية في البلاد فعدت إلى البيت أضحك. كثيرون جدا في عالم الصحافة لهم من يكتب لهم وكذلك في عالم الدراما والسينما، فهناك ورش لبعض الكتاب الكبار يديرونها فقط وأعضاء الورشة هم شباب يبدأ حياته ومن ثم يجد في هذا فرصة يكبر معها ذات يوم. بل إن عددا من كتاب الدراما الكبار كانوا يكتبون يوما ما لكاتب أكبر منهم وجد طريق الشهرة وقدم أفلاما ومسلسلات رائعة لم يكتب أكثرها. ورش الدراما أمر معروف. وأضيف إليه أيضا ورشا الآن لكتابة الرواية ــ للأسف ــ ابتدعها كاتب صار شهيرا فجأة، ومعروف أن من يكتبون له هم العاملون تحت إمرته في المؤسسة الثقافية الكبرى التي كان يعمل بها. والذي يقرأ أعماله يكتشف أنه لا علاقة من أي نوع لغويا ــ على الأقل ــ بين أعماله السابقة واللاحقة، لكن لأن أحدا ممن يكتبون له لم يقل ذلك، فلا مجال للحديث في الأمر. كل ذلك يتم في مطابخ سرية نعرفها ولا نتحدث عنها؛ لأنه لا فائدة في الحديث. لكن المطبخ البشع بحق هو من يكتبون رسائل الماجستير والدكتوراة للباحثين، وخصوصا من الدول الغنية أو من القادرين في مصر؛ لأن صاحبها سوف يمتهن التدريس في الجامعة ولن يوقفه أحد. غير هؤلاء، فكل من سبق الحديث عنهم يمكن أن يتخلى سوق الكتابة، النشر أو الإنتاج، عنهم يوما ما. رغم أنهم في النهاية لا يقدمون شيئا مسيئا. بل غالبا تكون الأفلام جدية والمقالات مقروءة. الكارثة في الجامعة؛ لأنها تقدم مدرسين جهلاء.. ما علينا. تداعى ذلك كله علي وأنا في جلستي التي أشرت إليها، فقلت: يبدو أنني في النهاية سأصدق فعلا أن الكاتب في بلادنا في موقع روحي كبير إلى هذه الدرجة التي تجعل غير الكاتب يريد أن يكون كاتبا. ثم وافقت الجالسين أن مهنة الكتابة عظيمة وتستحق حقا ما يفعله اللصوص والنصابون ليكونوا كتابا. وكنا نجلس في مقهى البستان يشرب كل منا قهوته. قلت لهم ضاحكا: حتى قعدتنا البائسة في هذا المقهى البائس يحسدوننا عليها. ولم أكمل رغم أن هذا النوع من الكتاب لا يختلط بأدباء المقاهي من الأصل.
مشاركة :