هذا الزيف يساعدنا بعد ذلك في فهم كثير من المكونات، والموتيفات السردية التي تكون شخصية «لوليتا»، وتجعلنا نتقرا شخصيتها. كنا قبل قد وقفنا على تطوافها في الكنائس ومحال العبادة، بيد أن حديثها الدائم عن الموت، والرغبة في الانتحار، وسعيها الحثيث للخلاص من نفسها، يكشف لنا عن عمق الثنائية، والصراع الذي تعيشه في نفسها حيال الازدواج في شخصيتها؛ الشخصية المتدينة التي تحرص على الصلاة، وقراءة القرآن، وتطمح أن تكون في الجنة، والشخصية الأخرى التي تعيشها في عالم الأزياء، ومصاحبة الرجال خارج إطار الزواج، وعلى غير الدين الذي تؤمن به. فسلوكها المتناقض في الحياة قد يكون استجابة لما تطلبه الجماعة منها، وهو ما يشعرها بالغربة عن العالم الحقيقي الذي تعيش فيه، ويكون شعورها بالذنب حيال ما تقترفه، أو الكذب الذي تمارسه على أناس يثقون فيها، ويعاملونها بالحسنى، مما يخالف طبيعتها السليمة، وشخصيتها الطيبة يجعلها تشعر بهذه الغربة، وتسعى للتطهر مما فيها. وهو تطهر لن يكون إلا من خلال عملية استشهادية تقوم بها، يتمزق فيها جسدها أشلاء في سبيل الله. على أن القلق، وتأنيب الضمير من فعل ما تطلبه الجماعة منها -إن صح ذلك- يعني أنها لا تؤمن بتلك الأطروحات إيمانا كاملا، وأنها تحس بالريبة منها، مما ينشئ الصراع، ويؤججه، فهي متذبذبة في موقفها ذاك، أوقد يكون إيمانها ضعيفا بها، فهي تؤمن بالقضايا الكبرى، والتزامها للجماعة مقابل مكونات مادية، أو أنها مكرهة على ذلك بتهديدها. ومن خلال شخصيتها القلقة نستطيع أن ندرك مكونات الشخصية التي تقع في براثن المتطرفين، وتنساق لتعاليمهم، أو تستجيب لأوامرهم، فهي -لوليتا- ذات خلفية متدينة -كما مر- ولدى الجماعات معلومات دقيقة عنها، وعلى صلة بالدوائر الاجتماعية المحيطة بها، تستطيع أن تصل إليها، وتتحكم بها، في عالمها الدقيق، فتؤثر عليها، وربما السيطرة عليها. ثم إنها قد مرت بتجربة شخصية عنيفة، جعلتها شخصا، ضعيفا، محطما من الداخل، يبحث عن النجاة، وإعادة بنائه من جديد، وهو ما يجعلها قابلة للاحتمالات المختلفة، وهدفا سهل الإغواء، والاستجابة. بناء على عدم وجود من تلجأ إليه أو تحتمي به منهم، إذ قطعت أواصرها من أهلها في الجزائر، وأصبحت غريبة في فرنسا إلا من بعض الأصدقاء، وزملاء العمل الذين يصنفون بالغرماء أكثر من الأصدقاء. لكننا لا نستطيع أن نجزم هل كانت «لوليتا» ستقتله، أم أنها كانت ترصد حركاته، وتمدهم بالمعلومات ليتولوا هم بعد ذلك شأنه، تسهيلا للعملية، وتخلصا من العواقب الوخيمة التي منعت تنفيذها في معرض فرانكفورت كما جاء في تقرير الشرطة. وهو احتمال نجده من رنات الهاتف المتكررة في جلسة لوليتا الأخيرة مع الكاتب، التي كانت تثير الفزع في محياها، وجعلها تعجل بالخروج، وتأكد عليه ألا يفتح الباب لأحد، وكأن هذا الأحد شخص قد اتفقت معه على أن يصل في وقت محدد، وينفذ عميلة الاغتيال، وهنا لا تصبح العملية انتحارية، وإنما قتل تخرج منها سليمة معافاة لتواصل تكرارها مع أهداف أخرى للجماعات الإرهابية. مما يعني أنها سبق وأن قامت بالفعل من قبل، الأمر الذي يبين سبب حزنها، واضطرابها، وشعورها بالصراع، والرغبة في التكفير بإنهاء حياتها والخلاص من شعورها سابق الذكر، وكأنه تغيير بخطة اغتيال الكاتب. الأمر الذي يؤكده أنها خرجت إلى المقهى، واختفت ثم انفجرت في عرض الطريق، أي -بصورة أخرى- قد ذهبت إلى المقهى المتعاون معهم، وأخذت حزاما ناسفا، لتفجره فيه، وهو الاحتمال الذي ألمحت إليه من قبل حين قالت: إنها ستحتضنه حتى تموت وإياه. وهو قول ورد في سياق الحديث عن المشاعر لا يبين ما فيه من تهديد بقدر ما فيه من معنى الحب والفناء في المحبوب، ولا يبين الوجه الآخر للقول إلا لصاحبته التي كانت تلحن بقولها ذاك، وهددته قائلا بأنه يجب أن يدعها تخرج قبل أن تبدل رأيها. وحين فعلت ذلك حمته من الذين يتربصون به الدوائر، وتخلصت -في الوقت نفسه- من الإحساس بالذنب الذي لا زمها مدة الأيام السابقة، مما قد لا يكون سببه الازدواج في حياتها الشخصية وحسب، بل بما كانت تفعله من قبل من خدمة للجماعات الإرهابية إذ تمثل مصدرا من مصادر المعلومات بالنسبة لهم.
مشاركة :