تتعالى منذ فترة، وفي غير جهة من العالم، الصيحات التي تحذر من صعود اليمين المتطرف، وأحيانأ اليمين... بلا نعت، وتدعو إلى بذل ما يمكن بذله من أجل الوقوف في وجهه والحيلولة دون رسوخ أقدامه في الأرض. ازدادت حدة هذه الصيحات حتى باتت أقرب إلى العويل، بعد فوز دونالد ترامب بمنصب رئاسة الولايات المتحدة وتعاظم فرص أحزاب يمينية، توصف بأنها متطرفة، في الكثير من البلدان الأوروبية لاعتلاء خشبة المسرح السياسي. يشهد اليمين بالفعل ازدهاراً لخطابه في الفضاء السياسي في العالم، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، غربها وشرقها ووسطها، وتميل فئات متزايدة إلى الأحزاب اليمينية وسط أزمات ومشاكل باتت تستفحل في كل ركن في العالم. ولكن لماذا يجري التخويف من الصعود اليميني بهذا الشكل وهل هناك بالفعل خطر من هذا الصعود؟ هل تشكل الأحزاب اليمينية، التي يتعزز حضورها وتقوى شوكتها، أي خطورة على استقرار وسلام المجتمعات التي تشرع في الإمساك بمقاليد الحكم فيها؟ هناك تعميم، يكاد يكون مقصوداً، في الإشارة إلى اليمين بما هو كذلك ومن دون الخوض في التفاصيل. وهذا إجراء اعتاد اليسار على ممارسته في مناهضته الطويلة الأمد لليمين. كل ما يفعله اليمين في المنظور اليساري يعتبر سيئاً وخطيراً. ولقد تمكن اليسار بالفعل من رسم صورة كليشيهية لليمين يظهر فيها «عدواً للشعب»، متعصباً، شوفينياً، يعمل من أجل النهب والاستغلال واستعباد الناس، لا سيما الفقراء والمعوزين. ومع أن الواقع دحض هذه الصورة على أرض الواقع مراراً وتكراراً وفي أربع جهات الكرة الأرضية، فالتنميطات المبسطة والإشاعات المخيفة غالباً ما ترقد في الأذهان. ليس ثمة يمين بالمطلق. تحت قوس اليمين تنهض أحزاب وجماعات وفرق وعصبات مختلفة في طروحاتها وغاياتها. وكما هو الشأن في معسكر اليسار فإن هناك أحزاباً يمينية تتبنى برامج سياسية واجتماعية وثقافية تشتط أحياناً وتجنح إلى التطرف. لكنْ مقارنة مع اليسار فإن اليمين، تاريخياً، كان الأكثر عقلانية والأقل تطرفاً والأكثر التصاقاً بالحاجات الحياتية اليومية للناس. وبالعكس من اليسار الذي يعشق التمسك بشعارات لفظية ويتغنى بالإيديولوجيات الكبرى والتصورات الخلاصية ويمارس خطاباً وعظياً، أخلاقياً، مجرداً، فإن اليمين يعمد غالباً إلى الهدوء في طروحاته والتواضع في مطالبه ويمضي خلف غايات ملموسة، براغماتية، لها ما يبررها على أرض الواقع، الأمر الذي يسهل التماس الحلول الممكنة عملياً. وفي وقت تكاد تكون برامج الأحزاب اليسارية نسخة طبقة الأصل بعضها عن بعض، فضلاً عن تطابق شعاراتها ورموزها وسلوكها السيميائي، فإن البرامج اليمينية تتنوع بقدر تنوع المجتمعات التي تنبثق منها هذه الأحزاب. فقد ظهر حزب الشعب اليميني في الدنمارك أساساً لمناهضة السياسة الضريبية القاسية التي فرضها الحزب العمالي الحاكم في الثمانينات. وفي السويد تأسس حزب «الديموقراطيون السويديون» بالأصل لمحاربة الركود والحفاظ على الرفاه الاجتماعي وتعميق التعددية. وفي النروج قام حزب التقدم وقد وضع نصب عينيه محاربة الفساد الذي بدأ يتسرب إلى بعض المؤسسات وخفض الضرائب. وبدأ حزب رابطة الشمال في إيطاليا مشواره السياسي وهو يدعو إلى حكم ذاتي موسع لمقاطعات شمال إيطاليا (بادانيا) واتباع فيديرالية ضريبية. وهناك أحزاب يمينية تحارب الإجهاض والمثلية الجنسية وتدعو إلى الخروج من منطقة اليورو وزيادة الأجور والتمسك بالدين والثقافات القومية والتقاليد. غير أن التغيرات الراديكالية التي طرأت في العالم في العقدين الأخيرين وتدمير برجي التجارة في نيويورك والحروب التي أعقبت ذلك والهجرات التي لا مثيل لها من بلدان العالم الثالث، خصوصاً من العالم الإسلامي، كل هذا وضع تحديات جديدة أمام الجميع، بما فيها الأحزاب اليمينية. ويبدو أن الأحزاب التقليدية الحاكمة، من اليمين واليسار على حد سواء، فشلت في التماس حلول واقعية لهذه المشاكل، وبدل أن تعمل من أجل القضاء عليها أو التخفيف من آثارها زادتها سعاراً. وحين تفشل جهة في القيام بمهمة ما تلتفت الأنظار إلى الجهة النقيضة. يقوم الخطاب اليميني الآن على أن اليسار، و»الاستبلشمنت» عموماً، فشل في سياساته، وهو يطرح برامج بديلة يحاول أن يقنع الناس بصحتها. ها هنا ينهض كل المُعادين، وهم كثيرون، ليضعوا العراقيل على سكة اليمين ويرموا حفنة الاتهامات والإشاعات والتجنيات في وجهه. هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة ليست متطرفة. والحال أن كلمة متطرف العربية هي ترجمة غير دقيقة لصفة الأقصى، التي تطلق على هذه الأحزاب باللغات الأوروبية. إنها أحزاب قصوى لأنها تقف على الجهة اليمنى من الأحزاب اليمينية، أي أنها تقف في أقصى اليمين. وفي نظر اليمين التقليدي فإنها تعتبر متطرفة لأتها تتجاوز البديهيات الكسولة التي تم الاجماع عليها يوماً وتكرست ومن ثم تكلست وبات تبديلها ضرورة ملحة. وهي ليست متطرفة لأنها لا تدعو أبداً إلى استعمال العنف لبلوغ غاياتها، بل هي تخضع للقانون في شكل صارم وتمارس اللعبة الانتخابية بصدق ونزاهة. حين كان أعضاء حزب «الديمقراطيون السويديون» (المتطرف؟) يعقدون ندوة علنية في ملعب لكرة السلة هب أعضاء حزب يساري (غير متطرف؟) بالهجوم على الحشد ورموهم بالزجاجات ومزقوا يافطاتهم. وفي هولندا قام عضو في حزب يساري (غير متطرف؟) باغتيال تيم فورتين زعيم حزب الحرية اليميني (المتطرف؟). ترمى هذه الأحزاب بتهم كثيرة أكثرها تداولاً الآن العنصرية وكره اللاجئين ومحاربة الإسلام. والحق أن هذه الاتهامات هي من التهافت بحيث أنها لا تصمد لأي مراقب حصيف ولأي شخص صادق مع نفسه. إنها أقرب إلى اتهام نجيب محفوظ بالكفر لأنه كتب رواية «أولاد حارتنا». لا تنطلق الأحزاب اليمينية، الموصوفة بالتطرف، من نزعة كره الأجانب أو الأديان أو الثقافات. وهي حين ترفع شعارات من قبيل الحد من الهجرة أو وقف الأسلمة فليس انطلاقاٌ من إيديولوجيا عنصرية كارهة بل لأنها ترى أن الهجرة المنفلتة من عقالها وسعي الإسلاميين إلى فرض تصوراتهم على المجتمع إنما يسيئان إلى المجتمع برمته. وحينما تدعو هذه الأحزاب إلى التمسك بالهوية الوطنية الجامعة، من دون أي سعي إلى فرضها على أحد، فمن أجل تقوية اللحمة بين المواطنين واندماج الجميع في مجتمع واحد متآلف. وهذا هو عكس الشعار الوهمي، المضلل، الذي رفعته الأحزاب اليسارية حول التعددية الثقافية الذي أدى عملياً إلى قيام غيتوات منغلقة، منفصلة عن بعضها بعضاً تتبادل الكره والعداء. ليست هذه الأحزاب مجرد مجموعات عصبوية معزولة أو جماعات هامشية ضيقة الأفق، بل هي أجسام سياسية ضخمة وتيارات شعبية كبيرة وصل بعضها إلى الحكم (حزب التقم النروجي) والبعض الآخر على عتبات الحكم. يشارك حزب التقدم النروجي، الذي يوصف بأنه متطرف وعنصري ومعاد للإسلام، في الائتلاف الحاكم منذ أكثر من سنتين. ووزيرة الهجرة، سيلفي ليستهاوغ، تنتمي إلى هذا الحزب. ومع هذا لم يُطرد لا جىء واحد ولم يتعرض أي مسلم لأي أذى أو إهانة. يدعو الحزب إلى تنظيم عملية اللجوء بحيث لا يُقبل أي كان على حساب من يستحق اللجوء فعلاً. يمكننا أن نردد الكلمة الأثيرة على قلوب أهل اليسار: هناك الآن شبح يجوب العالم اسمه اليمين المتطرف. لحسن الحظ أنه ليس شبحاً ولا هو متطرف. * كاتب كردي سوري
مشاركة :