بعد أن صوّر لنا الروائي التونسي الهادي جاء بالله، هذه القسوة من امرأة لا تقيم وزناً للإحساسات والعواطف والوجدانيات القلبية بين المحبين، وبعد أن أرهق القارئ بهذه الصدمة في أفعال غير مقبولة قامت بها شخصية بطل القصة «هاني»، لم يتوانَ الهادي جاء بالله لحظة واحدة في أن يدخل في عقدة أخرى وحادثة تكاد تكون أشدّ فظاعة مما سبقها، وذلك بعد مرور ثلاث سنوات من زواج الخال إبراهيم من الموظفة مريم التي «بدأت أحلام الأمومة تدق أجراسها... هالها قرار الكشف وأربكها لأنه يؤكد سلامتها كليا من أي سوء يكون مانعا لحمل طبيعي... تسللت ذات يوم إلى عيادة خاصة وقامت بفحوصات جديدة تطابقت مع سالفتها وأثبتت قدرتها على الإنجاب... لقد فكر الزوج إبراهيم في جوهر الموضوع وقفز قفزة الظلام ليجد نفسه مرتطما بجوهر موضوع ثانوي أشد فظاعة وأحس بمرارة عالية تغسل لسانه. لقد جاءت نتائج التحاليل عكس توقعاته» ص 67. وبهذا الحدث الجلل ينتقل الروائي التونسي بالقارئ نقلة نوعية ليجعله يتفاعل مع الحدث ويتابع سير الرواية بشغف لا مثيل له «لم يكن يدور بخلد الزوج إبراهيم قبل تلك الواقعة أنه مصنف ضمن زمرة الرجال الذين يشكون من العقم» ص 67. وقد ربط الكاتب هنا شخصية هذا الزوج في العامل النفسي بشهريار عندما اكتشف خيانة زوجته مع أحد عبيده بعد عودة مفاجئة من رحلة صيد، وماذا حلّ بشهريار من حالة نفسية مزرية حينما مكث عند أخيه «ملك شاه» قبل أن يعود إلى ملكه ويتخذ قراره بفضّ بكارة العذارى ومن ثـَم قتلهن.. لذا قام الروائي التونسي الهادي جاء بالله بتصوير لما يختلج الرجال من نار الغيرة ولهيب الشك حينما يطعنون برجولتهم، وكيف تذبل أجسادهم ويخيم عليهم شبح الموت البطيء «ظلت هذه الحقيقة حبيسة بكيانه ولكن بالمقابل بدأت حالته النفسية تسوء شيئا فشيئا، فصار يثور لأتفه الأسباب» ص 68؛ وعن ابنه سراج يقول الراوي «وأصبح حين يلمحه أمامه يردد في داخله: يا ابن الخطأ» ص 68. بعد أن قطع الهادي جاء بالله شوطاً في سرده التفاعلي لأحداث الرواية وما تمخض عن هذه الأحداث من نتائج فرعية، تارة بانهيار بعض الشخصيات من مثل الابن سراج حينما نمت الحقيقة إلى علمه قائلا لهاني وهو بحالة هستيريا «من الآن فصاعدا سوف لن يقول: غراب لغراب ريشك أسود... ص 89... إني أشد وطأة منك، أنا الآن شارفت على الثلاثين من العمر لأكتشف أني مزيف عشت كل هذه السنين بأب هو الآخر مزيف» ص 90، وتارة بالرضوخ إلى الأمر الواقع وتقبل الحقيقة المرة بحرقة وحسرة. عاد الراوي مرة أخرى ليسلط الضوء على بطل روايته - والحقيقة شخوص رواية الهادي جاء بالله أبطال كلهم- لأنه أجاد رسمهم بحرفية الفنان، ولعل تضاف له أيضا مهارة أخرى «عنصر المكان»، فقد أشركه كبطل هو الآخر بإتقان الراوي المبدع. سطع نجم هاني في فنّ الرسم الكاريكاتوري وفاز بمسابقة المدينة ثم التحق بمجلة، وهنا يبدأ الهادي جاء بالله ببناء مقام شامخ ومزخرف قد فصّله على مقاس البطل لينطلق منه في نسج حكاية جديدة، حينما التقى بموظفة الإشراف الفني في المجلة «هناء» الملقبة بـ «مواسم»؛ لنرى دقة التصوير عند الراوي في رسم المكنونات وحفظ أجزاء الحقائق «العيون مصوبة نحوها والأقدام تهرول خلفها والألسن مادحة في البدء وقادحة بعد خيبة المسعى، لم يتبق عزب واحد بالمجلة لم يطلب يدها أو لم ينشد ودها غير أنها كانت دائما تقول: ما زلت أنتظر رعشة قلبي عصارة حلمي المجتث منذ فجر ولا دتي» ص 76...«تشابهت مسيرة الحياة والماضي المفقود لكليهما قهر الأيام... سطوة الزمن؛ وفي أول لقاء بينهما قالت له»أنا أخاف الذئاب الثلاثة: الذئب الحقيقي الذي قطع حلمتي وحلمي وخوفي من الرجال أصناف الذئاب ومن المستقبل الذي دوما أخافه وأراه شبيها للذئب«ص 86. وبعد الهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة وكما قال الشاعر«ومن العواصف ما يكون هبوبها... بعد الهدوء وراحة الربان»، أراد الروائي التونسي للقارئ أن يتنفس الصعداء واطمأن القارئ بأن الرواية عادت سيرتها الأولى وسوف تنتهي بسعادة البطل وزوجته مواسم... إلاّ أن الهادي جاء بالله انقض على ذهن القارئ مرة أخرى وفجأة ودون سابق إنذار ليخلق عقدة هوت بالطمأنينة التي غزت قلب القارئ؛ فبعد عرض لمسيرة حافلة بالنجاحات للبطل ومزاحمة المبدعين؛ بل ولفت أنظار المثقفين وكأنه أراد أن يقول أنا لست أقل منكم شأناً، ولعله أراد أن يوضح للقارئ مدى سعة أفقه وإلمامه بعديد الثقافات وإن لم يكن مثقفاً متخصصاً يحمل شهادة ما في علم ما! فخيل لهاني الرزاز أنه قابع في إحدى القاعات بأكاديمية طبية كان يمني نفسه ذات يوم بالدخول إليها«ص 117. بدأ الروائي التونسي الهادي جاء بالله بحياكة أول قطعة من المشكلة»لقد وجدت نفسها في بيت زوجية ناعم ووثير غير أنها لم تكن فيه سوى نافذة ضيقة وخلفية إن كل النجاحات لزوجها الرزاز... أين بالونة الانبهار والإعجاب التي كانت لديها عندما كان الجميع يلهج باسمها داخل وخارج المجلة؟ لقد أخذ هاني الرزاز كل شيء منها وأحالها على تقاعد مبكر بمنزل الزوجية التي وجدت نفسها داخله ناشزة«ص 118 و 119. ويمارس الهادي جاء بالله فنـّه الروائي فها هو يدير دفة الحوار بين بطل الرواية وشريكة حياته المتضجرة» لماذا تجعل جميع الأشياء تلين لصالحك فقط؟... قبل أن يستجمع حاضره ويتساءل قائلا: هل صحيح ما سمعته يا وحيدتي؟ قالت مواسم: أجل يا سكين وريدي. أجاب الرزاز: ألم يكن هذا لكلينا؟ قالت مواسم: لا يا سيد هاني إنه لك وحدك ليس إلا «ص 120 و 121. ليصل إلى ذروة العقدة ويجعل القارئ مندهشاً من حتمية قدر مجهول حينما أدركت»مواسم«بأنها مهمشة في استراتيجية البطل وأجندته المستقبلية اكتشفتها من خلال السيناريوهات التي كان يتعامل بها مع الآخرين؛ لذا أطلقت صرخة وجع...»فأنا يا سيد هاني لست إلا أحد الأخطاء في التاريخ البشري لقد نشأت في فيافي نائية ولكنها أفضت بي وحيدة إلى عالم جديد بعاهة الفقر في ذاكرتي وعاهة بصفرين على صدري. وعندما وجدتك كنت أظن أنك الوحيد في هذا الكون الذي تستطيع أن تزيل من صدري هذين الجبلين وتفترس الذئب الذي كنت أخافه ولكنني لم أدر كيف وضعت وسادتي على أنياب الذئب ذاته لقد اكتشفت منذ مدة أنك ذئب أيضا يا هاني ولكنك في شكل حضري فأنت لا تنهش اللحم على سجيته ولكنك تفضله مسلوقا وبعض البهارات « ص 121 و122. * كاتب وباحث لغوي كويتي fahd61rashed@hotmail.com
مشاركة :