نجح الروائي التونسي الهادي جاء بالله في رسم أبعاد شخصية البطل، وقدمه للقارئ على أنه ليس شخصية عادية، بل هيـّأ القارئ إلى علو شأن بطل القصة في ما بعد؛ وهذا أول خيط نلمسه على لسان الشخصية الثانوية الخال إبراهيم «وذات يوم حمل الخال إبراهيم إلى مدرسته البعض من رسوماته - أي رسومات هاني- المكدسة بالغرفة ليطلع عليها ويبدي ملاحظاته نحوها. ففوجئ هذا الأخير- أستاذ البطل- بقيمتها رغم بساطة المواد المستعملة للغرض، وقد تركزت اهتماماته على أبعاد فوجدها سابقة لسنه آنذاك الذي لم يتجاوز العاشرة، كانت رسومات مختلفة... خرفان طائرة بجناحين... شجر زيتون مصلوب... صبايا وقد وضعن راحتهن نصف قمر...» ص 14. وينقل الروائي شخصية البطل إلى بُعد آخر ألا وهو البُعد الثقافي حيث يقول: «أمعن هاني في دراسته وكثف من مطالعته، كان يلتهم الكتب التهاما حتى بات حديث المدرسة لما أظهره من نبوغ واجتهاد...» ص 15. ويوفـّر الروائي التونسي للقارئ أرضاً خصبة من أبعاد وشخصية بطل روايته، ليمكـّن القارئ من قراءة صحيحة لما سيذكره لاحقاً من أحداث روايته والبُعد هذه المرة هو العصامية الفكرية حيث يقول: «ومع تجاوزهما سن الخامسة عشرة وبداية ظهور التغيرات الفسيولوجية بدا واضحا على سراج- ابن خال البطل هاني - نزوعه إلى الترف واللهو والاعتداد بالرأي. عكس «هاني» الذي يميل للصمت والحركة والبطء في أخذ القرار رغم البداهة والفطنة التي تميز بها وتترجمها عيناه اللامعتان» ص 16. أما الرحلة الشخصية الثانية للبطل: بدأ الروائي الهادي جاء بالله بنقلة نوعية من قرية إلى شبه مدينة حضرية أخرى والسبب كما يقول «لقد كانت تلك السنة حاسمة في تغيرات عديدة مست الجوانب الكبرى في راهن الأسر القليلة العدد، وكان الجفاف الذي تخطى سنته الخامسة وراء اضطراب أهل القرية فحاصرهم العوز» ص 17. إلاّ أن القاص التونسي استثنى أسرة البطل من هذه الأسباب حفاظاً على مكانتها وأوعزها لـ «تعيين الخال إبراهيم كمسير أشغال بمدينة «نبأ» الساحلية» ص 19. ويغتنم الروائي التونسي الهادي جاء بالله الفرصة ليقدم لنا أنموذجاً للشخصية الانتهازية المستبدة الجائرة. والوصولية إلى الثراء بطريقة غير مشروعة، والابتزاز ومصّ دماء الفقراء ومصادرة حقوقهم والاستيلاء على مكتسباتهم وقوتهم اليومي؛ وما أكثر هؤلاء الجشعين في مجتمعاتنا وهذه الشخصية هي شخصية «مبروك المناع»، حيث يقول الراوي: «أدرك مبروك المناع أنها لحظته المناسبة للانقضاض وضم القسم الأكبر من أراضي القرية لأرضه الشاسعة... لقد سال لعاب مبروك المناع وبدأ يقرض هذا ويشتري من ذاك. لم تطبق السنة على مدارها حتى باتت أغلب أراضي القرية حاملة لعقود مختومة لصالحه» ص 17 و18. وأثناء خطبة مبروك المناع في أهل القرية يقول الراوي: «أدرك الخال إبراهيم في الحال أن هذا الرجل البارز البطن والأوداج لم يشف من مرض الشراهة. فقد أطبق بفكيه مثل التمساح على أراضيهم عندما ضاقت بهم الحاجة. وها هو الآن يريد أصواتهم للحصول على مقعد بالبرلمان أو مجلس الأمة مثلما يرددها أغلب أهالي القرية... وعندما تفرق الجميع سأل هاني الخال إبراهيم: لماذا لم يقل لهم إنه بإمكانهم استرجاع أراضيهم! ضحك الخال إبراهيم واستطرد قائلا: مثل هؤلاء لا يتقيئون ما أكلوه حتى ولو كان فاسدا، لن يتقيئوه حتى إن مزق أمعاءهم» ص 36 و37. ولئن كان تغيير الزمان يغير المكان تلقائيـّاًً، فعند الهادي جاء بالله العكس تماماً؛ فتغيير المكان على حدّ قول الراوي: «كان أشد وطأة عند هاني الذي تقبله بالتردد والأسئلة ذاتها التي غمرته يوم جاء إلى أسرته الجديدة مهربا في القطار! إلى أين؟ نبأ جاء عاجلا للهجرة إلى (نبأ) وماذا تركت؟ غروب شمس جميل وأشجار زيتون حين أستظل تحتها لكأني أغتسل وبعض أتراب بالفصل، هم الآن معي تماما مثل أسئلتي الحارقة» ص 20 و21. واستطاع الهادي جاء بالله أن ينتقل من حديث رئيس ليشتقّ منه حَـدَثاً فرعيّاً بديناميكية روائية ماهرة، حينما دخل في فرع جديد لأسرة مرادفة للأسرة المحوريّة، أستطيع أن أطلق عليه «التوليد الروائي»، وذلك حينما ذكر للقارئ موظفة منتدبة كمستكتبة بشركة سكك الحديد، ثم صوّر مجتمعها المحافظ قائلا: «لقد كانت البنت الصغرى في أسرتها وهذا ما شجع أباها على إدخالها المدرسة وما إن انتهت من سنوات دراستها الستة حتى بدأت تبزغ الأنوثة في جسدها فلم يتردد أبوها في أخذ القرار وذلك بفصلها عن الدراسة» ص 27. ويجسّد الهادي جاء بالله تجربة «مريم» وفشلها في الحياة الزوجية حيث يقول: «لم تمض خمس سنوات حتى جاءها أحد الجيران طلب يدها وتزوجته لتكتشف أنه رجل حاد المزاج وغليظ الطباع ولا يقطن قلبه عدا تجارته وماله. انقضت خمس سنوات ولم تنجب فدب الخصام وسرت الفرقة بينهما ومازالا كذلك لم يبرحا قرارا حتى مات الزوج فجأة فبكته بعين وتطلعت إلى حياة جديدة بعين أخرى» ص 27. ثم ختم ذلك بقرار زواج الخال إبراهيم من الموظفة الأرملة (مريم)، وهنا وسّع الكاتب أرضيته لأحداث الرواية القادمة، وأوجد له متنفساً لطرح خياله الواسع وأفقه اللامتناهية. والكاتب هنا يرسم لوحة فنية رائعة ثم ينتقل لرسم لوحة فنية أخرى تنبض فيها الحياة، ويشحنها بحقنة من التفاعلات ويضفي عليها إرهاصات الزمان وتركيبة المكان، وهذه الرشاقة في التنقل تبني لك رواية فنية متجانسة بتفاعل جزئياتها. ولعلّ رواية الهادي جاء بالله قد شكـّلت مناخاً خصباً لنقاد ومحللي الروايات، فالهادي جاء بالله في روايته «مواسم الرزاز» يمنحك مادة دسمة للبحث في العمل الروائي، فالمرأة عند الهادي جاء بالله خليقة بأن تتناول من قبل النقاد ومحللي الروايات، فهو يضرب لك عدة نماذج للمرأة. وما يقال في المرأة يقال أيضا في عنصريْ الزمان والمكان، وفي الشخصيات الثانوية، وقسْ على ذلك مهارات كثيرة لو أردنا أن نقفَ عند كل صغيرة وكبيرة في رواية «مواسم الرزاز» ذلك العمل الضخم بمادته الأدبية. وللرواية بقية... * كاتب وباحث لغوي كويتي fahd61rashed@hotmail.com
مشاركة :