وسط كلّ ما يعيشه عالمنا العربي من حروب وعنف وأزمات راهنة، يأتي كتاب «الفكر والسياسة في العالم العربي» (دار لا ديكوفرت، باريس)، للمفكّر والباحث اللبناني جورج قرم بالفرنسية، ليطرح سؤالاً جوهرياً: «هل يوجد فكر عربي؟». وانطلاقاً منه، يعمد قرم إلى تأكيد وجود هذا الفكر في سياق معطيات ثقافية غنية شديدة التعقيد. غير أنها باتت اليوم صعبة الإدراك على المراقب العابر أمام صدمةٍ أثارتها عودة التطرف الديني في العقود الأخيرة، إضافة إلى الهزائم العسكرية والسياسية. يحمل الكتاب عنواناً فرعياً هو «الإطار التاريخي والإشكالي في القرنين التاسع عشر والعشرين»، وهو يشير إلى طبيعة العمل الذي يجول في تاريخ الفكر العربي المعاصر مُكرّساً تنوّع الثقافة العربية، فيميّز بينها وبين الحضارة الإسلامية العابرة للشعوب والثقافات، ويتطرّق إلى عطاءات العرب في الفلسفة والأدب والشعر والموسيقى ليصل إلى النهضة العربية المعاصرة في الفكر واللغة منذ نهاية القرن التاسع عشر والإشكالية المتصاعدة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية أو القومية. يعتبر قرم أنّ من الضروري جداً اعتماد الوضوح في تحديد ما يصب في الفكر العربي وما يصب في الفكر الإسلامي وعدم الخلط بين الفكرين. ويناقش مسألة الاندهاش في العصر الذهبي للزمن الغابر وكيف تحوّل هذا الاندهاش إلى أساس لمحاولات بناء بدائل عن الماضي بإحياء الإسلام، مقابل محاولات بناء فكر يُحاكي العصر ومتطلبات التحديات المستقبلية. يضع قرم في كتابه إطار الفكر العربي كمنظومة معرفية، فيحدد البعد الروحي لهذا الفكر ويقارنه بمفاهيم الاستشراق ويحذّر من الوقوع في الفخ المزدوج للحداثة والأصالة والهروب إلى الأيديولوجيات. بل ثمّة شروط بعينها ضرورية من أجل إطلاق نتاج فكري وثقافي في العالم العربي منذ نهاية القرن العشرين. فيقدّم على سبيل المثل مؤلفات ألبرت حوراني وهشام شرابي وغيرهما عن الفكر العربي المعاصر من دون أن يكتفي باستعراضها، بل يتصدى لمقولات ظهرت في النصف الأخير من القرن العشرين عن وجود «فكر عربي مسيحي» و «فكر عربي مسلم» في الثقافة العربية. وهنا لا يوافق قرم مطلقاً مقولات شرابي وحوراني التي تعزل المفكرين المسيحيين العرب عن المفكرين المسلمين العرب في النهضة وحتى أواسط القرن العشرين، ويرفض فكرة أنّ المفكّرين المسيحيين كانوا أكثر علمانية من المفكرين المسلمين. ويرى قرم أن هذه المقولات مجرد «كليشيهات» مصدرها الاستشراق الغربي. ومن خلال بحثه المتعمّق، يؤكّد قرم أن خلفيات المفكرين المذهبية أو الدينية لم تؤثّر في نتاجهم الفكري المتنوّر، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين. وقد ذهب الأمر ببعض شيوخ الأزهر إلى أن يتبعوا منحى علمانياً عميقاً حول فصل الدين عن الدولة في عصر النهضة. لكنّ المستشرقين الأجانب أرادوا- وبخبث- أن يصوّروا أنّ الفكر القومي العربي والاشتراكية العربية، إنّما مصدرهما مفكرون مسيحيون عرب يريدون الخروج من هيمنة الإسلام، وأنّ مفكرين مسلمين عرباً رفضوا الذهاب بعيداً في العلمانية. وهذا لم يكن صحيحاً كما يشرح قرم في كتابه، من دون أن يمنع ذلك ظهور بعض المفكرين العرب بنزعة مسيحية كما هي حال البعض في لبنان مثلاً. ويتحدث قرم عن الإطار السياسي المتغيّر للمجتمعات العربية منذ سقوط السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918 مروراً بوقوع المنطقة العربية تحت الاستعمار الغربي، وما جرّ ذلك من مساوئ التجزئة واستغلال الثروات العربية. وهنا يبرز قرم الخبير الاقتصادي ووزير المالية السابق في لبنان في تطرقه إلى موضوعة النفط كثروة أفادت عدداً من الدول العربية وساهمت في التنمية والنفط كنقمة لأنّه كان مادة الطاقة الرئيسة في العالم لعقود، ما جعل المنطقة العربية فريسة نزاع دولي وعرّض الدول العربية للاهتزاز وعدم الاستقرار. وهناك موضوعة الاقتصاد الريعي عند العرب سواء ريع النفط أو ريع التحويلات الخارجية والعقارات وحسابات الادخار في حال لبنان. فذلك كان أيضاً عاملاً من عوامل تخلّف العرب عن الاقتصاد المنتج ودخول جيل كامل مرحلة تنمية مفقودة. أما في جذور الافتراق الفكري عند العرب، فيتطرّق قرم إلى تأثير قيام دولة إسرائيل في قلب العالم العربي ودخولها كثيمة رئيسة في الفكر العربي المعاصر، وإلى تأثير الواقع السياسي الجغرافي والنزاعات العربية العربية على تطور هذا الفكر. ويعتبر قرم أنّ العالم العربي دخل مرحلة جديدة بعد 1979 بعد الثورة الإيرانية، ويحدّد ستّة عوامل تاريخية ساهمت في الافتراق الفكري العربي. وهنا يعود إلى القرن التاسع الميلادي أساساً لبدء انهيار الفكر العربي عندما خرج العنصر العربي بمعناه الثقافي بسقوط الدولة الأموية في دمشق وتفكك الدولة العباسية في بغداد ودخول العناصر الفارسية والتركية ودخول الحضارة العربية في طور الانحدار بعد الغزو الفرنجي 1099 والمغولي عام 1258. أمّا في عوامل النهضة الفكرية، فيرصد قرم ظهور رعيل أول من المثقفين العرب في القرن التاسع عشر أنتج فكراً نهضوياً قاوم تغلغل الاستعمار الأوروبي ووضع حدّاً للمواطنة العثمانية وأنبت بذور الفكر القومي العربي. وتميّز فكر الرواد الأوائل أنّه لم يشجع الفخر بالتاريخ والحضارة وحسب بل كان شديد الوعي للتخلّف الاقتصادي والعسكري والثقافي الذي كان العرب يعانون منه بعد قرون من الجهل. فكانت الفترة الممتدة من 1850 إلى 1950 ميداناً للمثقفين العرب الذين يتوقون إلى الحداثة، فتحدّث قرم عن دور المتنورين من الأزهر والأدباء كطه حسين والحركة النسوية. ثم تساءل عن جدوى تقليد النموذج الأوروبي في الحداثة وعن الحركة الإصلاحية في الإسلام (ص182). ويلي تلك الفترة التأسيسية ولادة العقائد القومية والأحزاب التي تحدّثت عن الأمة العربية والأمة المصرية والأمة السورية... ويعتبر قرم أنّ ازدهار هذه الحركات والأحزاب بدأ مع الثورة المصرية عام 1919 وانتهى مع هزيمة الدول القومية أمام إسرائيل عام 1967. ويتضمّن الفكر القومي حزب البعث والتيار الناصري وحركة القوميين العرب، إضافة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي والحركات الوطنية في المغرب العربي. يدخل قرم أخيراً في تحليل تراجع الفكر القومي منذ الستينات بعد سلسلة هزائم سياسية وعسكرية وكيف جرت مراجعات ذهنية عن أسباب الهزيمة والانكسار (الفصل العاشر) وكيفية إنعاش هذا الفكر، فيشرح مساهمات صادق جلال العظم وأدونيس وعبدالله العروي والنقاد الماركسيين (ياسين الحافظ وسمير أمين ومهدي عامل والطيب تيزيني والياس مرقص). ومن ثم يحلّل الفكر الإسلامي وعداءه للفكر القومي العلماني والمجادلات الكبرى في الثمانينات والتسعينات بين الجانبين وبروز محاولات توفيقية بينهما (الفصل 13). ويختتم الكتاب بنظرة تفاؤلية يتناول فيها بروز ملامح فلسفية في الفكر العربي جمعت بين السوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة والتاريخ ما ينبئ بجيل جديد من المفكرين يمهّد الطريق لتجديد النهضة. ويقوم قرم بجردة قيّمة للفكر العربي في العلوم الإنسانية كالتاريخ والفلسفة والاقتصاد وبخاصة في العقود القريبة. كتاب قرم غير مسبوق في أطروحته ومضمونه يعكس معارف المؤلف في السياسة والاقتصاد والفكر والتاريخ ويضيف الكثير من الجدّة بعد خمسين عاماً من كتب مماثلة صدرت لمفكرين من بينهم أنور عبد الملك وألبرت حوراني.
مشاركة :