خبرة الرسام الفلسطيني في الخط تعود إلى سنوات تفتحه الأولى، وقد ساعدته في تمرير ذائقته البصرية من خلال ما وهبه الكوفي المربع من لمسات جمالية، سعى إلى توظيفها في لوحاته.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/03/12، العدد: 10569، ص(10)]رفيق اللحام الرسام الذي يبدأ نهاره بألف لوحة لندن - عام 1992 كنت مدعوا لحضور مهرجان المحرس الذي يُقام سنويا في تونس. غير أن السفارة التونسية في بغداد وبعد شهرين من المقابلات امتنعت عن منحي تأشيرة دخول. سافرت إلى العاصمة الأردنية عمان يائسا بعد أن طويت حلم الرحلة إلى تونس. هناك التقيت الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد وقد كان يعمل في دارة الفنون بجبل اللويبدة. كما هو كان آل سعيد ما ورائيا في كل ما يفكر فيه ويقوله ويفعله. غير أنه فجأة انتقل بخفة إلى الواقع حين أخبرته بحكاية الرحلة المفقودة. قال لي “لنذهب إلى رفيق غدا”. “ولكن رفيق اللحام ليس سوى رسام. هل ينفع رسام في مسألة هي من اختصاص دوائر الأمن؟”. لم أسأل معلمي الذي بدا مطمئنا إلى فكرته. غير أن اللقاء باللحام في اليوم التالي قد بدد كل شكوكي. الحروفيان يلتقيان لقد استقبلنا الرجل في مكتبه بوزارة السياحة وكان يشغل منصبا رفيعا هناك. كانت سعادته بلقاء آل سعيد قد أربكته بحيث لم يلتفت إلى المسألة التي دفعتنا إلى زيارته حين أوجزها بجملة واحدة ليقضي الرجلان بعدها ساعتين من الحوار المتواصل الذي كان الخط العربي موضوعه. وإذا ما كنت بتأثير ذلك اللقاء قد حصلت على التأشيرة التونسية بيسر بالغ، فقد منحتني تلك الزيارة غير المتوقعة فرصة التعرف على اللحام خطاطا. لم يكن اللحام حروفيا (نسبة إلى التيار الحروفي الذي يستلهم الحرف الجمالي جماليا) بالرغم من آل سعيد وهو رائد الحروفية كان يعتبره كذلك.فنان كان منحازا إلى جماليات تفتح باب فلسطينيته على عالم أكثر سعة كان اللحام ينظر بتواضع إلى شغفه بالخط العربي. كانت حكايته مع الخط قد بدأت قبل الرسم. أما الحفر الطباعي وهو رائده في الأردن فقد حضر متأخرا. غير أن الرجل وهو شيخ رسامي الأردن اليوم حرص على أن ينظر إلى دوره التاريخي بتواضعه المعروف. الرسام الذي قضى حياته كلها موظفا ظل متمسكا بالرسم شغفا روحيا لم تخربه السوق التي ظل بعيدا عنها. ولد محمد رفيق اللحام في دمشق عام 1931 من عائلة فلسطينية مقدسية. درس في دار الصناعة والفنون. هناك تتلمذ على أيدي حلمي حباب وأستاذ الخط العربي نجاة قصاب حسن والفنان ميشيل كرشه الذي كان أول سوري يوفد إلى فرنسا لدراسة الفن. بعد ذلك درس الفن في أكاديمية أناليك ومعهد جان جوكومو ومدرسة دانتي للغة الإيطالية في روما. بعدها التحق بمعهد روشتستر في الولايات المتحدة ليكمل دراساته الفنية. عمل في عمان رساما معماريا في وزارة الأشغال عام 1940 وبعد سنتين انتقل إلى القصر الملكي ليمارس العمل نفسه. عام 1951 انتقل إلى العمل في وزارة السياحة. وهي الوظيفة التي لم يغادرها إلا حين وصل إلى سن التقاعد. عام 1952 أسس الندوة الأردنية. بعدها ساهم في تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين التي ترأسها عام 1979 وكان أيضا واحدا من مؤسسي اتحاد التشكيليين العرب في بغداد عام 1971. أسلوب اللحام الفني كان يميل إلى الهندسة المنضبطة أقام مع الفنان الأميركي بول لنجرن دورة لفن الطباعة في مركز كندي ببيروت عام 1969. قام اللحام بتصميم أكثر من 200 طابع أردني كما نفذ نصبا تذكاريا في الدوار الثالث بجبل عمان. هندسة خيالية للعاطفة عمل في شبابه كاتبا ومراسلا صحافيا في العديد من الصحف الأردنية والسورية واللبنانية. "رحلتي في الحياة والفن" هو عنوان مذكراته التي حاول من خلالها أن يسلط الضوء على ما تعلمه في الحياة وساعده على أن يكون فنانا. كان اللحام مولعا بتعلم اللغات فكان يجيد الإيطالية والإنكليزية قبل أن يلتحق بدراسته الفنية في إيطاليا والولايات المتحدة. ما علاقة الرسم المعماري بالنتائج الجمالية التي انتهى إليها رفيق اللحام في بحثه الفني؟ لقد بدأ اللحام مسيرته العملية رساما معماريا. وهو ما ترك أكبر الأثر على طريقته في النظر إلى الرسم التي منج عنها أسلوبه الفني، وهو أسلوب غالبا ما كان يميل إلى الهندسة المنضبطة. خبرة اللحام في الخط التي تعود إلى سنوات تفتحه الأولى ساعدته في تمرير ذائقته البصرية من خلال ما وهبه الكوفي المربع من لمسات جمالية سعى الرسام إلى توظيفها في لوحاته في محاولة منه للمزاوجة بين ما يستحضره من مشاهد يومية، عاشها عبر سنيّ حياته أو رآها باعتباره شاهدا وبين حلوله الجمالية الهندسية التي جعلته واحدا من قلة من الرسامين العرب الذين وظفوا الزخرفة في رسومهم بطريقة عضوية. كل ما كانت تقع عليه عيناه كان يسترجع بقوة خياله قوانينه الهندسية. وهو ما دفع الرسام إلى بناء تجربته بعيدا عن الانطباع العابر والطارئ. لا تلعب الصدفة دورا في ما يتوصل إليه الرسام من أشكال ومساحات لونية. يضع الرسام كل شيء في مكانه وفق حسابات مسبقة لذلك يخيل إليّ أن اللحام كان ينشئ لوحته ذهنيا قبل أن يرسمها، وهو ما جعل سقف العاطفة ينخفض في رسومه. لم تكن عاطفته من النوع المتاح الذي صنع من خلاله الفنانون الفلسطينيون الوجدان الوطني الذي هو واحد من أهم عناصر الهوية الغائبة. ما فعله اللحام كان مختلفا تماما. لقد لجأ إلى الهوية الأكثر سعة وهي الهوية الجمالية الإسلامية.اللحام وظف الزخرفة في رسومه بطريقة عضوية لم تكن تجربة اللحام في المزاوجة بين شغفه الجمالي الخاص وواجب رسام فلسطيني يقيم في المنفى مضطرا مهمة يسيرة. فالفنان الذي راهن على صمته العاطفي كان منحازا إلى جماليات تفتح باب فلسطينيته على عالم أكثر سعة، هو ذلك العالم الآسر الذي كان يستجيب لانفعال يده وهي تسعى إلى اختراع مكان بديل للنظر. نهاره بألف لوحة ولكن ما الذي يعنيه أن يحتفظ رسام بألف لوحة من نتاجه في بيته؟ ذلك الرسام بالتأكيد لم يكن مهتما بالسوق. لا شيء له علاقة بالحظ بالنسبة لرسام من نوع رفيق اللحام. فالرجل يمتلك تاريخا من العلاقات بالفئات الاجتماعية التي تقبل على اقتناء الأعمال الفنية. كما أن الحصول على عمل منه هو أشبه بالقبض على جزء حي من التاريخ الأردني الحديث. يخيل إليّ أن اللحام وهو المتعفف عن الدخول في لعبة السوق الفنية قد اختار بمحض إرادته أن يبقى إرثه الفني مصانا بعيدا عن رائحة المال. إنه رأسماله العاطفي الذي يبقيه حيّا ومقيما في خطوته الأولى. تلك الخطوة التي قرر فيها أن يكون خطاطا. وهي خطوة تنطوي على الكثير من الطهر والنزاهة والعرفان. لم يكن رفيق اللحام فنان الآخرين، بل فنان نفسه. ولم تكن له قضية سوى الفن خالصا ومهيمنا وعفيفا. وهو ما وضعه في موقع، لم يكن التنافس مع الآخرين ممكنا من خلاله. لغة الإنصاف التي يتحدث بها اللحام عن رفاق رحلته من رواد الفن التشكيلي في الأردن تفصح عن عمق نزاهته وقوة المعاني التي انطوى عليها شغفه بالجمال خالصا. بألف لوحة يقضي المتقاعد رفيق اللحام نهاره مبتسما لأن الحياة لا تزال ممكنة.
مشاركة :