للحب قصص لا تنتهي - نجوى هاشم

  • 1/24/2016
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بدأت علاقتي بالموت مبكراً.. في سن الثانية عشرة من عمري.. وفي إجازة نهاية عام دراسي.. حيث كنا في جازان.. ننام معاً.. في الصيف كما هو معتاد في الهواء الطلق بحثاً عن نسمة باردة.. كانت عمتي في الثامنة والثلاثين من عمرها.. يلجأ إليها الجيران للشكوى.. والفضفضة.. والنصيحة.. والتعلم.. وقراءة القرآن.. وهي الوحيدة في ذلك الزمان التي كانت تقرأ.. أسمعها ترتل القرآن آخر الليل.. وتبقى طويلاً على سجادة الصلاة.. حرصت على أن تعلمني لأكون في رصانتها وتعقلها وعلمها واحترام الناس لها.. لا أذكر أن تعرضت لأحد.. أو تعرض لها أحد رغم أن الناس يتقاتلون بالألسن بينهم كل يوم ثم يعودون ويتصالحون..!! في تلك الليلة غادرت النساء الأربع أو الخمس منزلنا بعد صلاة العشاء.. وكل ما تذكرته أنني سمعتها تحكي لهم عن الحلم الذي راودها لثلاث ليالٍ متتالية.. وهن يسمعن وتحاول كل واحدة أن تقول إنه حلم عادي.. لكن عمتي كانت تُصرّ أنه الموت قادم.. وليس غيره ونحن لا نعرف موعده.. كانت تقول ذلك بهدوء وإيمان كامل بقضاء الله وقدره.. كنت أقرأ في كتاب لمحمد عبدالحليم عبدالله وغفوت ولم أشعر إلا بها تغطيني.. لا أتذكر كم كانت الساعة عندما نادت عمتي نداءً خفيفاً لمرتين.. نجوى.. زمزم.. وهي والدتي -أطال الله بعمرها- والتي كانت تربية عمتي هاشمية حيث تزوجت من والدي في الثانية عشرة من عمرها.. تيقظت بسرعة واتجهت مع أمي لسريرها وكانت تؤشر أنها تريد ماء لتشرب.. ركضت بسرعة وأحضرت الماء وأمي أمسكت بيدها واليد الأخرى على صدرها.. تحاول أن تهدئها.. بينما أنا أحاول أن أرفع رأسها لأسقيها الماء.. ثوان وليست دقائق بين رفع رأسها ونظرتي لها وهي تقول.. خليك حرمة.. وانتبهي لإخوانك.. لم يصل الماء حلقها وغابت في ثوان.. صرخنا أيقظنا الحي المتلاصقة منازله.. لا أعرف كم كانت الساعة كل ما أعرفه أن النساء حضرن بسرعة لا تتجاوز ساعات وكانت عمتي هاشمية رحمها الله وغفر لها ترقد في قبرها.. ويعود المشيعون بدونها.. ويحضر النهار بعد أن غابت..! لسنوات طويلة حاولت استيعاب ما حصل وكيف أن سطوة الموت تخطف منّا من نحب.. دون أن نتهيأ لذلك أو نستعد.. ظل موت عمتي هو الاختبار الأول لي في الحياة.. والأقسى والذي حضر دون استعداد له أو تهيؤ..! في مشوار الحياة فقدت أحباء وجيران وصديقات كثرا تقاسمنا معاً المحبة والحب والحياة والتفاصيل.. زميلات دراسة وعمل.. ومعارف.. وفي كل مرة نعود للحياة بعد أن نهجرها لموت حبيب.. لأننا نرتبط بالمصير الواحد.. وهو أن الموت حق على الجميع.. وأنه مهما أبطأ فإنه سيأتي يوماً ما.. ومهما كانت الحياة حلماً جميلاً.. فإنّ الموت هو اليقظة كما يقول فولتير..! يصدمنا الموت لكن نؤمن بأنه جزء من الحياة ولا يوجد شخص مخلد في الدنيا فكلنا سائرون إلى نفس المصير.. ومع ذلك بعض الفقد بالموت لمن نحبهم يقتلنا.. وبالذات الأصدقاء.. نموت عندما نفقدهم كثيراً.. وليس هناك ما يحمينا من الوجع عليهم أو يصد عنّا الألم.. منذ أسبوعين تعرضت صديقتي الحبيبة "مها خواجي" المشرفة التربوية في جدة والتي تركت العمل مبكراً جداً للتفرغ لتربية أطفالها.. لحادث وهي عائدة من العمرة حيث صلت الفجر في الحرم المكي ونوت صيام الخميس وعادت مع ولدها سنة وأخوات زوجها، وفي الطريق تعرضت لحادث توفيت فيه واحدة من أخوات زوجها ودخلت هي في غيبوبة.. لمدة يوما غادرت بعدها إلى الدار الآخرة رحمها الله وغفر لها وأسكنها فسيح جناته..! عندما زرتها في العناية المركزة حدثتها وكأنها تسمعني.. ألم نتفق يامها على أن نجتمع أنا وأنت ومنى.. لنحتفل بتوديعك العمل واستعدادك للتغيير بالعمل كمدربة رائعة ومتفوقة وقريبة بتلك الابتسامة الساحرة من كل من يعرفها.. لماذا خلفتِ الموعد وتركتيني أتلفت لساعتي بحثاً عن توقفها أمام لحظة تفيقين فيها من الغيبوبة..؟ خططت للتقاعد المبكر ورسمت طريق الحياة في جدة بعد أن عاشت تجربة قاسية منذ خمس سنوات فقدت فيها زوجها يحيى وهو لم يتجاوز عاماً.. كان صائماً في آخر يوم من الست في شوال وقبل أن يصلي المغرب داهمته نوبة قلبية توفي في ثوان.. ظلت مها حتى لحقت به تتذكر يحيى وهو الذي عوّدها أن يفعل كل شيء.. تعلمت أن تفعل مثله وكانت تقول إنها تجد صعوبة لتقوم بدوره أمسكت ببناتها الأربع وولدها الصغير وأكملت الحياة، ولكن مما كانت تردد أن الحياة تمضي ولكنها لا تعود كما كانت.. خمس سنوات ولحقت بزوجها.. وتركت أطفالها ووالديها وأصدقاءها يموتون بصدمة موتها..! تقول لي خالتها عمادية إنها في الشهرين الأخيرين ومنذ تركها للعمل كانت تقول لخالتها القريبة منها والوحيدة في جدة التي أحبتها مع أولادها حيث تعيش كل أسرتها وأسرة زوجها في صبيا انها تشعر بالموت وأنه لن يطول بقاؤها في الدنيا.. تشعر أنّ يحيى يناديها وستذهب إليه.. يبدو أن ذلك ما يشعر به الميت قبل موته رغم أنها لم تكن تشتكي من شيء..! لا نستطيع أن نخفّض وتيرة الحب لمن نحبهم حتى لا نتألم لو غادروا فجأة.. ولا يمكن أن نتفاوض مع الموت ليقف ولا ينطلق ويخطف من نحبهم.. لأنه عائد وسيعود فالموت هو الحقيقة الوحيدة بعد الولادة.. "فإذا سقطت أوراق الورد وأظلمت الكواكب.. وهدأت الأمواج.. فذلك هو الموت" كما يقول لامارتين..! نحن أحياء وسنواصل الحياة لكن لسنا نحن.. لأنّ الموت يقتطع أجزاءً منّا كلما حضر ليأخذ من نحبهم.. وداعاً مها يا أرق وأطيب النفوس وأرحمها وأكرمها.. اللهم اغفر لها وآنس وحشتها وضاعف حسناتها وتجاوز عن سيئاتها وبشرها بالفردوس الأعلى.. يارب ارحم أرواحاً تراها ولا ترانا.. اللهم اجبر كسر أبنائها وصبّر والديها وأحبابها ومن أحبوها وأحبتهم برحمتك يا أكرم الأكرمين..

مشاركة :