لماذا يعشق العراقيون السياب؟ السياب ليس شاعرا خلاّقا فحسب، فهو تمثلَ الوطن الذي غادره مضطرا نحو سماوات روحة، وحملَ معه جوعه ونشيجه ومطره وشناشيله وأسواقه القديمة.العرب صباح ناهي [نُشر في 2017/03/23، العدد: 10580، ص(24)] كل الذي قيل في السياب وعنه يأتي في إطار رياديته للشعر الحر، وفي تفكيك عوالم قصائدة، التي تمتد إلى عقدين من الزمن. السياب الذي اختلف فيه وعنه النقد، والسرد لحياته وتقصي أوجاعه وزفرات روحه المحملة بالشجن وحكايات لا تنهي عن خصوماته ومعاركة الأدبية، فإنه شاعر وطني بامتياز عراقيته، واخلاصه الذي لا يضاهى مع سواه لرمزية ذلك الوطن الذي وصفه “يا بلاد المياه يا بلاد الظمأ”. حين زرت جيكور قريته الحزينة على فقدان مكونات جنتها بفعل وقع الحرب عليها أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وتأملت نهره الأسطوري بويب الذي لا يعدو سوى نٌهير صغير سدهُ الطمى وتشابكت حوله الشجيرات وانحنت عليه النخيل، بعد أن تمزقت أجسادها بشظايا تلك الحرب وهجر الناس تلك القرية النائية أقصى العراق، ولم يظل منها سوى بيت السياب الطيني وبضع بيوت قصية وحكايات أمجاد السياب التي حولت تلك الرموز إلى ما يشبه الأساطير. تساءل أديب عربي كان معنا في الرحلة متعجباً “أ من كل هذا صنع السياب ملاحمه، ونال ريادة الشعر الحر! كم أنت عظيم أيها السياب، جعلتنا نقطع كل تلك المسافات لنبحث عن نهر في الجنة، هو بويب وقريتك الفاضلة جيكور، في آخر نقاط الضوء في العراق لتحيلها إلى أسطورة”. نعم فالشاعر بمخيلته العميقة أحال تلك المثيرات إلى أساطير، كتب عنها العشرات من المؤلفات والقصص التي لم تنته بعد، السياب ليس شاعرا خلاّقا فحسب، فهو تمثلَ الوطن الذي غادره مضطرا نحو سماوات روحة، وحملَ معه جوعه ونشيجه ومطره وشناشيله وأسواقه القديمة وبيوتاته التي لا تختلف كثيرا عن قبوره، واستعاد شم ترابهٌ ورائحة الطلع وظفّر قصائده من سعف نخيله وصاغ قصائده من حصران الجياع وشتم المتخمين والمرابين ولام أصحاب القلوب القاسية واستجار بالفقراء والمعدمين وخلدّ أرواحهم وانتفض لجوعهم وحرمانهم. ذهب بعيداً ليغترف من تلك الرمزية العراقية التي نسجت مخيلته من البصرة حتى بغداد، حيث مسرح دراسته وتحدياته ونساؤه الأسطوريات، ملكات وشحاذات عفيفات ومومسات، متمنعات قابعات في شناشيل منازلهن العالية بعلو سعف النخل وأخريات يكابد صبواته معهن، وبرغم كل ذلك اليتم الذي غلف حياته والجوع والأسى، ظل العشرات من أقرانه يحسدونه ويتشبهون بمنجزه، كانوا صناعا مهرة، لكنهّم يدركون أن ذلك الفتى الجنوبي النحيل قد تخطاهم وحّلق وحده بعيداً. صباح ناهي
مشاركة :