هل سيؤدي موت الرئيس في أي بلد له ذهنية مهيمنة وسائدة مؤسسة على الرأسمال الثقافي الدكتاتوري على مدى قرون إلى دخول ذلك البلد آليا وفورا في فردوس الديمقراطية؟العرب أزراج عمر [نُشر في 2017/03/23، العدد: 10580، ص(9)] عاد الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الأحد إلى الظهور على شاشات التلفزيونات الجزائرية وهو يستقبل في مكتبه بمقر رئاسة الجمهورية وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية السيد عبدالقادر مساهل، وبذلك يكون قد فنّد ولو رمزيا الإشاعات الكثيرة التي أطلقت من جهات كثيرة بعد إصابته بالوعكة الصحية في الأيام القليلة الماضية، وذهب بعضها إلى القول بأن رئيس البلاد قد مات إكلينيكيا وأن جماعته في قصر المرادية وأجهزة الجيش والأمن تخفي الحقيقة على الشعب الجزائري. وفي الواقع فإن ماراثون هذا النمط من الإشاعات لم يتوقف منذ تعرّض الرئيس الجزائري للمرض إلى يومنا هذا وصار هؤلاء الذين ينتظرون فراغ الكرسي الرئاسي للاستيلاء عليه، سواء كانوا في الأحزاب المعارضة أو في مواقع أخرى، يتغذون ويتعشون عليها يوميا ويتخذونها وسيلة لممارسة الضغط على النظام السياسي الحاكم لكي يمتثل لهم ويدعو إلى الانتخابات الرئاسية المبكرة. وبالفعل فقد تحوّل العمل السياسي والنضالي لهذه الأحزاب ولكثير من الشخصيات الأخرى مختزلا في الترويج لهكذا إشاعات والعيش عليها، في الوقت الذي نجده فيه قد تخلت فعليا عن ممارسة النشاط الفعلي المنتج بكل أنواعه الملموسة في الميدان لمساعدة الشعب الجزائري على التغلب على المشكلات الكبرى التي أرقته ولا تزال تسدَ أمامه أفق الخلاص على مدى سنوات طويلة عجاف. كيف نفهم الدوافع النفسية والثقافية النمطية التي تفرز مثل هذا النوع من الاشاعات المتواصلة التي تدفع بالتعجيل بموت رئيس البلاد قبل أن يحين أوانه عمليا؟ ثم هل ينتهي التخلف البنيوي في الجزائر الذي يطال الأبنية السياسية والثقافية والتربوية والعلمية والنفسية بمجرد رحيل الرئيس بوتفليقة عن الحكم، وأن البلاد الجزائرية ستنبت فيها بعد رحيله مزرعة العسل والسمن والورود ويزول من فضائها الفقر المادي والتعبدي؟ أين هذه المشاريع المنقذة للجزائر عند الأحزاب المعارضة الجزائرية وعند مختلف أجهزة ومؤسسات النظام السياسي الحاكم نفسه أيضا؟كان من المفروض أن يفتح رئيس البلاد المجال ديمقراطيا لشخصيات وطنية أخرى مباشرة بعد النجاح النسبي الذي حققه، والذي مهد له الرئيس السابق اليامين زروال لماذا لم يقدر أيّ حزب معارض في الجزائر من توجيه ما يدعوه بقاعدته الشعبية إلى المزارع والمعامل ومؤسسات الإنتاج المختلفة للقيام بصدق وفاعلية بما دعاه المفكر مالك بن نبي بالتوجيه العملي والصناعي والجمالي والإنتاجي لدى المزارعين والعمال وبغرس فقه التطوير في نفوسهم؟ لماذا لم ترسل هذه الأحزاب المعارضة العشرات من قياداتها المحلية والمركزية والآلاف من حملة الشهادات العليا ممن يسمون مناضليها في الجزائر العميقة إلى الأرياف للعمل وفق برنامج واضح ونفس طويل قصد القضاء على سرطان الأمية الحرفية والقانونية والمهنية والسياسية والأخلاقية المتفشي فيها وهلم جرا؟ ولماذا تركت هذه الأحزاب الشعب الجزائري ولا تزال تتركه بلا قيادة روحية وسياسية وثقافية وفكرية وبلا تنوير علمي، علما أن دور الأحزاب يكمن أساسا في ابتكار هذا الدور متعدّد الأبعاد وفي تفعيله والجهاد الفكري والعملي من أجل ترسيمه رأسمالا وطنيا متجسدا بمضامينه وجمالياته المتقدمة في الواقع اليومي؟ وأكثر من ذلك، هل سيؤدي موت الرئيس في أيّ بلد له ذهنية مهيمنة وسائدة مؤسسة على الرأسمال الثقافي الدكتاتوري على مدى قرون إلى دخول ذلك البلد آليا وفورا في فردوس الديمقراطية؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة المتداخلة لا بد من القول بأن أكبر خطأ ارتكبه الرئيس بوتفليقة وخلفه النظام الحاكم هو الاستمرار في الحكم لفترة طويلة جدا، وتغيير الدستور على مقاسه لضمان أربعة عهود كاملة. لقد كان من المفروض أن يفتح رئيس البلاد المجال ديمقراطيا لشخصيات وطنية أخرى مباشرة بعد النجاح النسبي الذي حققه، والذي مهّد له الرئيس السابق اليامين زروال والخيرون في المجتمع الجزائري، في مضمار تسوية ميراث العنف والصراع المتبادلين بين النظام الحاكم وبين جبهة الإنقاذ الإسلامية طوال ما يسمى في الأدبيات الجزائرية بالعشرية السوداء. لو انسحب الرئيس بوتفليقة من قصر الرئاسة في هذا التوقيت بالذات وبطريقة تضمن تداول الحكم وفق معايير الأخلاقيات الديمقراطية الناضجة لكان قد كرّس نموذجا سياسيا إيجابيا يحتذى ويدافع عليه وينسج على منواله الفاعلون السياسيون والمجتمع المدني، ولكن يبدو أنّ البنية الثقافية الجزائرية والذهنية التي تأسست عليها قد تغلبت وصار النظام الحاكم بما فيه الرئيس بوتفليقة يعيد إنتاجها بوعي أو بلا وعي منه. ويبدو أيضا أن الرئيس بوتفليقة قد عبّر عن هذا الوضع في معرض تبريره لتشبثه بالكرسي الرئاسي ودفاعا عن مسوّغات إصراره على البقاء في السلطة بهذا التصريح الذي نقل عنه حيث قال فيه “هذا الشعب (أي الشعب الجزائري) الذي صفق لمجيئي إلى سدّة الحكم هو الذي سيصفق لرحيلي”، وهو بهذا يكون قد وصف بدقة حال الذهنية السائدة التي شكلت ولا تزال تشكل تضاريس البنية النفسية العميقة التي تتحكم في المجتمع الجزائري، وتفرز بهذا الشكل أو ذاك ظاهرتي النفي والإلغاء في صورة مركبة من التعقيدات التي تفرض ضد تداول الحكم في الحياة السياسية. بناء على ما تقدّم فإن المرء يستغرب مواصلة أطياف معتبرة من المعارضة الجزائرية وعدد من الإعلاميين استعجال رحيل الرئيس بوتفليقة، حيث أن من يتابع الندوات السياسية التي تدار في الفضائيات التلفزيونية الجزائرية والمكرّسة لمناقشة مرض الرئيس بوتفليقة، لا يجد فيها سوى ما دعاه سيغموند فرويد بـ”رغبة الابن في القتل الاستعجالي الواقعي أو الرمزي للأب” الذي يأخذ في الحالة الجزائرية شكل رئيس البلاد. ولتفسير هذه الظاهرة نفسيا وثقافيا فإنه يمكن النظر إليها من زاويتين: أولا إن اختزال الحل، الذي هو توهم طوباوي في التحليل الأخير، في التخلص من شخص الرئيس واعتباره وحده هو العقبة أمام التقدّم السياسي الديمقراطي، هو تعبير صريح عن المضمر في الثقافة البطريركية السائدة في المجتمع الجزائري التي تكرّس القيادة الفردية والفرد المخلص. وثانيا فإن الملاحظ هو أن كبت الحداد، من طرف الأحزاب السياسية المعارضة ومن يدور في فلكها، على الفقدان سواء تمثل ذلك في مرض الجزائر كلها وفقدانها لرهان التحديث أو في فقدان فاعلية الإنسان بسبب المرض أو في تحوله إلى موت بطئ أو على الميت فعليا، هو تعبير عن قسوة الضمير (الأنا الأعلى) الفردي أو الجماعي، وبالتالي فهو إعلان ضمني عن عدم تحرر الذات الفردية أو الجماعية المكبوتة من ذلك الموضوع المفقود. كاتب جزائري أزراج عمر
مشاركة :