إننا نشاهد كثيراً من الصور للمرتفعات في العالم، وتختلف المناظر من مكان إلى آخر، والمنتج في النهاية فضاءات مجتازة، وسياقات وأذواق عالية ومتدنية، بعضها تقع في الافتتان والبعض الآخر تنتمي لأشياء معروضة مسبقاً من كثافة الإعلان عنها، وتتشبع عدسة الذاكرة بها، لتصبح مشاهد مألوفة. فمن أعلى برج التجارة العالمية، في نيويورك، وقف"دوسارتر "على رؤية شاملة للمدينة (منهاتن) فيقول لهذه الرؤية قيمة أسطورية، بحكم أنها تحاول الانفصام عن العوارض الزمنية أو الأحداث الفاعلة التي تعج بها الشوارع في الأسفل. لا شك أن الارتفاع إلى أعلى انتزاع السكون من الضجة والفرد من الحشد، ورفع الأقدام عن مغناطيس الأرض، وانحراف المساحات، ويضع سارتر أشكالاً جديدة من المعنى والفهم، ومن المشهد يستنبط حكايات جديدة، ولو أخذنا بما جاء به من تصورات وإمكانات، وكتبنا نصوصاً تعكس بعض هذه التصورات، لوجدنا أن مناقشة سلطة الإعلام على أماكن محددة من العالم دون غيرها، استراتيجيات سلطوية، وممارسات استعمارية، تتبع أساليب الحصر، وتجيد تطويع الأذواق والخيارات، سواء كان إعلاماً عالمياً أو عربياً أو خليجياً على نحو خاص. وعلى وجه الخصوص لقد نجح الإعلام في دولة الإمارات نجاحاً باهراً، واستحوذ على الفضاء العالمي، وشغل حيزاً متنوعاً، وحول المكان إلى موقع ينتج صوراً جذابة، وأشكالاً فنية، وأساليب تقنية مبهرة وبفضل هذا النجاح الإعلامي ازدهرت السياحة في إمارة دبي. وأصبح برج خليفة كأسطورة برج بابل، الذي دارت حوله القصص والأقاويل والسنن والأرواح، إلا أن برج خليفة تفوق بالشهرة والتكنولوجيا، فهل يسعنا القول هنا أن الإعلام هو لغة العصر الحديث ووجه المشرق، ومن الملاحظ أن الإنسان الكوني اليوم انصاع للمعلومة التي تتخطى استقلاليته، وحقق أهداف الايدولوجيا الإنتاجية التي فرضت كثيراً من المشاهد والصور والمواضيع وفق تجارتها الرابحة، فالأصل والبداية الآن للإعلام فقط. ولقد رأينا فيما سبق أن الكم الهائل من المفاهيم التي ابتكرها الإعلام، جعل منها ربطاً منهجياً للتفاعلات في المجتمع الاعتباري. فأصبح معظمنا لا يرى إلا المعروض فقط، ويبني كل نشاطه وفعله وتواصله في نطاق الخطاب الموجه له. فالمشهد الأخاذ اليوم لنا كخليجيين، هو مرتفع واحد ألا وهو" برج خليفة" إلى جوار الأبراج العالمية الأشهر والأقدم، فمن جهة أخرى لا نرى ما على الأرض كمشروع جغرافي تقليدي، وإنما قدرات واسعة النطاق كنزعة قومية، لم تعد العيون والعقول ترى أو تعقل القديم لأن الإعلام تخطاها وتجاوز تاريخها، ولا يعني ذلك نفي الحديث أو الجديد، لأن النفي بحد ذاته يوجد فراغاً كبيراً في موسوعة الإدراك. فالإبداع الذي حققه الإعلام اليوم على حساب تقنيات ذاتية عميقة، فصل ما بينه وبين ماضيه إلى حد ما، فعطل كفاءته ولكن حسن نيته، ليركض خلف مجتمع يكاد يزدهر على حساب الماضي، وصواب الحاضر، والخروج من مأزق تعارض الفكرتين، وتحقيق مقاصد ربحية، وتأهيل جيل جديد يسلط الضوء على تاريخ الأمم القديم والحديث، ويعرض حضاراتها ومعالمها التاريخية، التي تسطر قصص المؤرخين القدماء بنسق وسياق جديد، ومعايير تربط الحاضر بالماضي، إن ما نشهده هو تطور ومقاييس ونتائج لأكثر من علامة تجارية، وهذا هو مقياس الزمن اليوم، نجاح هذه العلامات، التي تثري النظم الاقتصادية، وتحقق هدفاً من عدة أهداف أهمها الرفاه الإنساني، والجزء الثاني من الأهداف هو الوجه المميز للنزعة النفعية، التي تعتبر طريقاً ممهداً نحو مظهر مادي للسعادة والصناعة.
مشاركة :