وزير الثقافة التونسي يشجع على الثورة ضد المركزية الثقافية لم يعد منصب الوزير رمزا للوجاهة الاجتماعية والنفوذ السياسي، ولم يعد أي وزير في تونس بعد 14 يناير 2011 بمعزل عن المساءلة والتقييم، الأمر الذي يؤكده وزير الثقافة التونسي محمد زين العابدين في حوار مع “العرب” أنه يعيه جيدا ويؤيده في سياق توجهاته التي يسعى من خلالها إلى النهوض بالواقع الثقافي في تونس وهو واقع لا ينفصل عن السياسي والاجتماعي والتنموي ويأتي في صدارة مواجهة ثغرات الفترة الانتقالية وما أفرزته سنوات الثورات الأولى من وقائع وتغيرات كان بعضها ضارا على غرار ظاهرة الإسلام المتشدد الدخيلة على الثقافة والمجتمع ومحاربتها لا تكون إلا من خلال الفعل الثقافي.العرب آمنة جبران [نُشر في 2017/03/31، العدد: 10588، ص(12)]محمد زين العابدين: أينما حلت الثقافة اجتث الإرهاب تونس - عندما تم الإعلان عن اختيار الدكتور محمد زين العابدين وزيرا للثقافة في تونس ساد الساحة صخب وجدل بين متسائل عمّن يكون هذا الوزير وبين منتقد له وبين متعاطف معه يعرف خبايا الساحة الثقافية في تونس وتعقيداتها ولوبياتها، وكم هو صعب الدخول في ثناياها. من مكتبه بوزارة الثقافة الواقعة في منطقة القصبة التاريخية، كانت لنا جلسة صباحية مع وزير الثقافة محمد زين العابدين. تحدث فيها عن حال الثقافة في تونس وواقع الإصلاح والتجديد. كما منحت خصوصية المكان للحوار طابعا خاصا، حيث تطل الوزارة على ساحة القصبة، قبالة ضريح النقابي فرحات حشاد، ودار الحزب القديمة، المقر الأول للحزب الدستوري الذي تحول طابقه الأول إلى فضاء للمسرح، وعلى يمين الوزارة مقر الحكومة، وتحاذيها وزارة الدفاع. وتحيط بالوزارة من كل جانب المساجد والمباني التاريخية والمقاهي العتيقة، وغير بعيد عنها تكونت على مر السنوات أحياء شعبية، وقع بعض أبنائها بين براثن التنظيمات المتشددة وانساقوا وراء شعارات الإسلام السياسي التي لا يوجد سلاح أقوى من الثقافة والفن للخلاص منها. نعود بالحديث إلى الماضي، وتحديدا الحقبة البورقيبية باعتبارها زمنا تأسيسيا للثقافة التونسية المعاصرة. ويتحدث محمد زين العابدين، الحائز على الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي والثقافي من جامعة السوربون سنة 1998 وعلى الدكتوراه في الجماليات والجغرافيا السياسية من نفس الجامعة سنة 2004، عن تفاصيل تلك المرحلة مشيرا إلى أن الثقافة أخذت نصيبها في حقبة بورقيبة بسبب السياسة الاشتراكية التي اعتمدها منذ 1956 وشملت مجالات عدة كالحق في التعليم ومجانيته والصحة والحق أيضا في الثقافة. وقام نظام الاستقلال ببعث دور الثقافة والهياكل الفنية كالمسرح الوطني، وتم التأسيس لأيام قرطاج المسرحية والسينمائية. كانت هناك إرادة بأن ترعى الدولة العمل الثقافي بتوفير ما يسمى الحق الثقافي. غير أن الطموح الثقافي للدولة المستقلة حديثا لم يجسد كله على أرض الواقع لما يتطلبه من إمكانيات كبيرة لا تسمح بها ميزانية وزارة الثقافة الوليدة لكن ذلك لا ينفي أن هناك جيلا تأسيسيا أرسى دعائم المسار الثقافي في تونس. ويعتقد زين العابدين أن توجه بورقيبة بخصوص السياسة الثقافية هو توجه مهم لكن مع الوقت لم يف هذا التوجه بالمستحقات الحقيقية للثقافة والمثقفين إلى حد الآن، لأن السياسات الثقافية المتعاقبة منذ الاستقلال كانت سياسات مرتجلة ولم تكن مبنية على رؤى استراتيجية تعي أن العمل الفني يمكن أن يكون له انعكاس تنموي مباشر. وللأسف مازالت هذه الرؤية مستمرة إلى اليوم في التعاطي مع الثقافة باعتبارها مصدر دخل وليست فقط ترفيها وتثقيفا.الثورة الثقافية لا تختصر فقط في شقها الثقافي بل هي ثورة اجتماعية إنسانية مرتبطة بالبعدين السياسي والوجودي، الثورة ترتبط بعلاقة الإنسان بمحيطه ومجتمعه والتزامه بقيم الحرية كان صدى النشيد الوطني الذي يعزف كل صباح على الساعة الثامنة في ساحة القصبة حيث يرفع العلم، يتردد على مسامعي فيما يواصل وزير الثقافة حديثه عن الثقافة في تونس بين زمني استقلال 1956 وثورة 14 يناير 2011، في رده على سؤال هل ستنجب الثورة الجديدة ما أنجبته ثورة بورقيبة وفرحات حشاد من حيث إفراز وضع ثقافي متميز. الإشكال الكبير، كما يحدده وزير الثقافة التونسي، يكمن في الفكرة التي انطلقنا منها منذ عام 1956 والتي تقضي باعتبار وزارة الشؤون الثقافية هي الوزارة المرجعية الوحيدة وأن الدولة هي التي ترعى الشأن الثقافي. اليوم لم يعد الأمر مثل السابق والرعاية الحكومية فقط للشأن الثقافي قد تكبله وتحصره في توجه واحد. أيضا يرى وزير الثقافة أن من نقائص هذا التوجه أيضا أنه لا يواكب التطور الكمي في عدد الفنانين والمبدعين وتنوع المجالات الثقافية بما يجعل وزارة الشؤون الثقافية عاجزة على الوفاء بكل حاجياتهم لقلة الموارد والإمكانيات. والحل يمكن أن يكون من خلال التوجه إلى المستثمرين ورجال الأعمال وإقناعهم بأهمية الاستثمار في الثقافة وفوائده الاقتصادية والتنموية والتنويرية. ويلقي هذا الواقع بثقله على المثقف التونسي الذي يواجه صعوبات في القيام بدوره الإصلاحي خلال المرحلة الانتقالية؛ وهي صعوبات أساسها مالي لأن حرية التعبير وحرية الانسجام والتصور في الأعمال اليوم باتت كلها متاحة بشكل كبير لكن الإشكال يبقى دائما في مصادر التمويل. في سياق الحديث كان وزير الثقافة حريصا على تنبيهي إلى أن اسم الوزارة أصبح وزارة الشؤون الثقافية، وهو الاسم الذي حملته الوزارة في عهد الشاذلي القليبي، واختار محمد زين العابدين أن يعيد العمل به عوض تسمية وزارة الثقافة والمحافظة على التراث لأنه يحيل إلى أن مهمة الوزارة هي الاشتغال على دعم التنمية الثقافية وصناعة المنتوج الثقافي والاهتمام بالشأن الإبداعي الذي تعطيه حرية التعبير دفعة للتألق والازدهار. الحديث عن حرية التعبير ينقلنا إلى زمن الحاضر والجو الثقافي في تونس بعد ثورة 14 يناير التي يقول محمد زين العابدين إنها أفرزت حالة عطاء ثقافي وفني مختلفة عما كان سائدا. فالثقافة قبل هذا التاريخ هي ثقافة الدولة، الثقافة الهيكلية المؤسستية، في بعدها الرسمي، أما بعد 14 يناير فكانت هناك إرادة حقيقية للخروج من هذا النمط الثقافي والرغبة في الانعتاق. وظهرت في سياق التحول الثوري أنواع من الفنون لاقت حظها، من ذلك فنون الشارع من موسيقى وغرافيتي ومسرح. ولقيت هذه الفنون صدى لأنها تعبر عن إرادة حقيقية عن الحرية بلغة الشارع. ويعتقد محمد زين العابدين أن التعبير وقوة الحجة عن الإرادة المواطنية عبر فنون الشارع لهما أهمية كبيرة، لكنه يشدد في نفس الوقت على ضرورة انخراط الثقافة في سياق الهيكلي والمؤسستي لضمان حق الفنان والمواطن والوطن. وإيمانا من وزير الثقافة بفنون الشارع “ولغته” التواصلية التي تعكسها بشكل كبير مواقع التواصل الاجتماعي على غرار فيسبوك، حرص محمد زين العابدين على أن يكسر الصورة النمطية للوزير التونسي، من خلال اتخاذ موقع فيسبوك منصة إعلامية وتواصلية لتغطية مشاركته الميدانية في الفعاليات الثقافية والرد على الأسئلة وتوضيح مواقف أثارت بعض الجدل.إبداع على قارعة الطريق ثورة ثقافية نجح محمد زين العابدين في أن يجيب على بعض من هذه التساؤلات وأن يحوز على مساندة الكثيرين. لكن، في نفس الوقت كانت هناك أصوات كثيرة منتقدة بخصوص الكثير من الملفات، وفيما تتردد فكرة أن الساحة الثقافية التونسية مثقلة بتراكمات قديمة تعيق عمل أي وزير جديد، يحمّل البعض الآخر محمد زين العابدين مسؤولية عدم الخروج بقطاع الثقافة من مأزقه. ولا ينكر الوزير أن وزارة الثقافة لم تواكب منذ عام 2011 إلى زمن غير بعيد الثورة السياسية والفكرية والاجتماعية في البلاد، لكنه يعتبر أن مردّ ذلك أساسا مركزية وزارة الثقافة التي تقوم تقريبا بكل ما يخص السياسة الثقافية والشأن الثقافي في تونس، في غياب الموارد المالية والآليات الكافية لتطوير المشهد الثقافي وبعث المشاريع الثقافية الفنية في كل نقطة من البلاد. ويضيف محمد زين العابدين “ولهذا نحاول نحن بقدر المستطاع تطبيق المفاهيم الكبرى لثورة 2011 على أرض الواقع باحترام إرادة الشعب وخاصة احترام إرادة المبدعين والفنانين، ونحاول أن نواكب كوزارة شيئا فشيئا وبما هو متوفر لدينا التطلع المجتمعي نحو ثورة ثقافية حقيقية ونصلح ما يستوجب إصلاحه حتى تجدد الثقافة نفسها وتجدد وعيها بالتزاماتها”. وفي محاولة لتجسيد هذه الثورة على أرض الواقع أطلقت وزارة الثقافة البرنامج الوطني “تونس مدن الفنون وتونس مدن الحضارات”، بالإضافة إلى بعث مجموعة من المهرجانات الجديدة، من ذلك أيام قرطاج لفنون الشعر وفنون الكولوغرافيا والفنون التشكيلية وتدشين أكثر من ستين ساحة للفنون، في خطوات وصفها البعض ببوادر تمرد إيجابي على مركزية الثقافة. ويؤكد محمد زين العابدين أنه “تمرد على المركزية المقيتة للثقافة واقتصارها على بعض الجهات دون أخرى. اليوم نتحدث عن مواسم ثقافية كمفهوم جديد للفعل الثقافي يستمد خصوصيته من كل منطقة تونسية وما تنتجه في كل موسم. كما تدعم الوزارة المبادرات على مستوى المجتمع المدني للخروج من نمطية ثقافة الدولة”. يعتقد محمد زين العابدين أن الشعوب خرجت من منطق ثقافة النخبوية إلى ثقافة “العامة” بفضل وسائل الإنتاج الاتصالي والحوامل التكنولوجية الجديدة التي جعلت الثقافة شأنا جماهيريا. وهذا الواقع الجديد يدفع نحو ضرورة إطلاق ثورة ثقافية، وهو أمر لا يتعلق فقط بتونس بل بالعالم العربي عموما، حيث لا يمكن تحقيق التنمية في ظل غياب نظرة ثقافية تكون في نفس الوقت تربوية وتنموية. وخلق هذه الثقافة يحتاج إلماما بمفردات الحداثة ومفاهيم التقدم بشكله الراهن، لكن إلى حد الآن الدول العربية لا تزال تتعامل مع الثقافة باعتبارها شأنا نخبويا، وهذا الأمر يجعل الشأن الثقافي اليوم بين منزلتين، مثقفو البرج العاجي لا يصل إنتاجهم إلى العامة وما ينتجه “الشعبي” لا يعترف به “النخبيون”. والثورة الثقافية إذا كانت في علاقات متشعبة مع العلم والمعرفة والتكنولوجيا والابتكار والإبداع ستفرز بالتأكيد أنماطا جديدة من الإنتاج الثقافي والمنتوج الفكري، أي مجتمعات عربية قادرة على الارتقاء بالذوق والجمال، وهذا يعني تحصينها من الأفكار الظلامية وثقافة التشدد التي وجدت مكانا لها في ظل الفراغ الحاصل بين الثقافتين النخبوية والشعبية، حيث يجب على المثقف أن يعي دوره الرئيسي في الخروج بالمجتمع من النّفق المظلم. يؤكد محمد زين العابدين أن الثورة الثقافية أساسية لكن لا تختصر فقط في شقها الثقافي، بل هي ثورة اجتماعية إنسانية بالمعنى السياسي والوجودي. فالثورة الثقافية تعني علاقة الإنسان بمحيطه ومجتمعه والتزامه بقيم الحرية والديمقراطية والمشاركة في الوعي العام الذي يغيب فيه العربي للأسف لاعتبارات عديدة.لا بد من ثورة إصلاحية وتصور جديد للعمل الإبداعي في تونس حتى تسترد الثقافة إشعاعها الذي شهدته خاصة بعد الاستقلال وكانت من بين مسببات هذا الغياب ظاهرة استقطاب الشباب، التونسي والعربي، وأيضا الغربي، لأن الثقافة الغربية أيضا تواجه نوعا من الركود وعدم مواكبة التغيرات المجتمعية الصاعدة في ظل العولمة والتحولات التكنولوجية “الصادمة” أحيانا للوعي الإنساني ومفاهيمه الزمنية. يرى محمد زين العابدين، الذي له تجربة في التواصل مع الشباب، باعتباره أستاذا جامعيا وشغل منصب مدير للمعهد العالي للموسيقى بتونس والمعهد العالي للموسيقى بسوسة، أن هناك عملا تربويا وثقافيا لم يتم إنجازه كما يجب في مستوى التأطير مع غياب الاستراتيجية الكاملة للدولة بتغييب دور الثقافة لاعتقادها أن المجالات الحيوية ذات أولوية وأهم من المجال الثقافي. ونتج عن هذا الوضع فراغ فكري لدى الشباب؛ وهو ما قاد بعض المحبطين منهم إلى طريق الإرهاب. والخروج من هذا المأزق يستوجب قراءة جديدة للأساليب والاستراتيجيات وجعل الثقافة جزءا من التربية والتعليم بالإضافة إلى إعادة كتابة المفاهيم والمصطلحات التي تتحدث عن القيم والوطنية والدفاع عن الوطن بلغة جديدة مواكبة لتطورات الوضع التونسي والعربي عموما، سياسيا وثقافيا واجتماعيا. وينبه محمد زين العابدين إلى أنه لا يعني بالتحدث بمصطلحات جديدة وبلغة مختلفة القطع مع الماضي بل محاولة تحقيق معادلة تقوم على السير في ركب الحداثة مع المحافظة على الهوية والموروث. الإسلام السياسي تدرج الحوار من العهد البورقيبي إلى مرحلة ما بعد ثورة 11 يناير، يحيلنا إلى طرح إشكالية الإسلام السياسي في تونس أساسا، في مرحلة تعرف بأنها ذات سياسة أقرب إلى العلمانية وأكثر انفتاحا. في السابق لم يجد المجتمع التونسي صعوبة في التوفيق بين الهوية الدينية ذات التوجه السني المالكي ومسايرة الحداثة والانفتاح، لكن بعد صعود موجة الإسلام السياسي وظهور ثقافة جديدة دخيلة على المجتمع لكنها نجحت في التغلغل إلى درجة أن البعض أصبح يواجه التشدد الديني بتشدد هوياتي يفصل تونس عن تاريخها العربي الإسلامي الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول كيفية إعادة إنجاح معادلة الحداثة والمحافظة على الهوية التونسية متعددة الثقافات والموروث الإسلامي. يجيب محمد زين العابدين على هذا التساؤل مشيرا إلى أنه لا يمكن أن يطرح في غياب السيرورة التاريخية. وهذا الجدل طرح منذ القرن التاسع عشر وبداية الإصلاح المجتمعي في تونس الذي دعا إليه حمودة باشا وخيرالدين باشا وإلى غاية القرن العشرين كانت المراجعات تجري ضمن سياق قضايا الهوية العربية مع الأخذ بالعلوم الإنسانية الغربية، وقد توضّحت الرؤية مع حسم الأمر من خلال الدستور التونسي الذي يؤكد فصله الأول على مسألة الهوية الإسلامية العربية للبلاد، فيما تنص بقية الفصول على تثبيت حق المواطن في التعليم والثقافة والحياة بما يساعد على تطوير المجتمع. وبالنسبة إلى محمد زين العابدين الدين الإسلام هو مرجع أساسي للاعتبار الثقافي الحضاري للمجتمع التونسي، لكن الإسلام السياسي متناقض مع مبادئ الإسلام الحضاري ويقيده في تجليه الإبداعي وتوقه إلى الحرية والتعبير عن الثقافة الإنسانية حيث لا يمكن أن ينفصل الدين عن الدنيا وهذا التلازم يخدم الحياة والجمال ويعطي الإنسانية معاني الوجود، لذلك يرى أن الإسلام السياسي، المتشدد، يقيد هذه الاعتبارات لكن الإسلام الحضاري يعطيها الحياة. وهذه الحياة تتخذ من الثقافة محملا لها لذلك يشدد وزير الثقافة في تونس في ختام حواره مع “العرب” على ضرورة إحداث ثورة في قطاعات الثقافة في العالم العربي، وهذه الثورة لا تتحقق فجأة أو في زمن محدد لأنها فعل ممتد. صحافية من تونس
مشاركة :