يبين إدوارد سعيد في كتابه المشهور الاستشراق الصادر في نيويورك عام 1978 أن هذا الاستشراق الذي غيّر مسار البحث العلمي حول العرب والمسلمين كان جزءاً من مؤسسة سياسية غربية لتخيل الآخر, وتمثيله، واختزاله بهدف السيطرة عليه. فالاستشراق مدرسة للتفسير مادتها الشرق، بحضارته، وشعوبه، وأقاليمه؛ وهو سلطة أيضاً، ذلك أن تحليل خصائص السلطة يبين أن هذه الخصائص تنطبق أيضاً على الاستشراق. فالسلطة تُكتسب، وتتراكم، وتنتشر، وتُحول الى أداه لصناعة المعايير والتوجهات، والأذواق، والمصالح، والقيم. وهذه الخصائص لدى سعيد تميز الاستشراق أيضاً؛ فهو بالتالي سلطة معرفية وسياسية – كما يؤكد في كتابه المشار إليه. ففي الفصل الأول من كتابه "الاستشراق" الطبعة الرابعة المنشورة بالإنجليزية عام 1994 المعنون "اتساع مدى الاستشراق" يتحدث بلغة عاطفية قوية منتقدا موقف بلفور من أمم الشرق، وقوله "إن بريطانيا تقدم أفضل ما لديها لهذه الأمم، وفي المقابل تحصل على عدم الامتنان" (ص 32) ، مؤكدا (ص ص 35-36): "لو كان نجاح بريطانيا في مصر شيئا غير إعتيادي، كما يقول بلفور، فهو لم يكن نجاحا غير منطقي، أو من غير الممكن تطبيقه. وكانت مصر تضبط من خلال نظرية عامة عبّر عنها كل من بلفور من خلال نظرته للشرق وحضارته، وكرومر من خلال إشاراته إلى إدارة الشئون اليومية لمصر. جوهر هذه النظرية أن هناك غربيين، وهناك شرقيين، الغربيون يسودون، والشرقيون يخضعون." وأدى الخطاب الاستشراقي العام وظيفة تعبوية وسياسية خدمت السياسات الإمبرياليه، وشكلت مكوناً أساسياً في مناخات صعود الهيمنة الغربية على البلدان العربية – يؤكد سعيد. فتحولت الثقافة الغربية باستخدام وسائل الإدراح والإدماج، وخطاب الاستشراق إلى الثقافة المسيطرة التي طبعت الثقافات الأخرى إلى حد ما، وفي أحيان أخرى إلى حد كبير، بطابعها التكنولوجي، العقلاني والاستعلائي. هذا التوسع الإمبراطوري الغربي وما رافقه من هيمنة غربية جعل الثقافات تتلاقى، وتندمج، بحيث لم يعد بالوسع الحديث عن ثقافة نقّية، أحادية، فجميع الثقافات هجينة، تعددية، وغير وحدانية - كما يؤكد سعيد. وبالاستناد إلى هذه التحليلات يوجه سعيد إنتقاداته لطروحات صاموئيل هانتنجتون حول الحضارة الإسلامية، وحول حتمية صراع الحضارات داعيا إلى إبراز، وتعظيم ما هو مشترك بين الحضارات، حيث يؤكد في مقدمة كتابه "الثقافة والإمبريالية"(ص 10) : "وأنه لذو أهمية خاصة بالنسبة لي، كعربيّ وغربي أن فكرة التعددية الثقافية، أو الهُجنة – التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم – لا تؤدي دائما إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي إلى المشاركة، وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة. وإنه لعلى قدر كبير من الأهمية أن نتذكر ذلك في وقت يحاول فيه متطرفون مثل صاموئيل هانتنجتن أن يقنعوا العالم بإن (صدام الحضارات) أمر محتوم لا مفر منه." ويوجه سعيد نقده للخطاب الاستشراقي الذي سيطر على العلاقات بين الشرق والغرب على مدى القرنيين الماضيين فهو يرى أن هذا الخطاب ظل عاجزاً عن التطور بسبب تمسكه بخرافة مركزية حول الثقافة الشرقية، وهي أنها ثقافة الجمود، وعدم التطور. بينما تتميز الثقافة الغربية بالمرونه والعقلانية والتطور المستمر. وكانت هذه المركزية في رأيه وما يرتبط بها من مقارنات وتصنيفات أيديولوجية أحد أدوات إنبثاق الهويتين الشرقية والغربية، كما كانت أحد عوامل قدرة الغرب على الهيمنة وفرض إرادته على الشرق. ويوضّح سعيد (ص ص 108-109): "بمعنى من المعاني فإن محددات الاستشراق هي، كما قلت سابقا، المحددات التي تدور حول عدم الاحترام، وعدم الاعتراف، وإنكار إنسانية ثقافة، أو حضارة أخرى مغايرة، بما في ذلك شعوبها، وأقاليمها الجغرافية. ولكن الاستشراق إقترف مستوى آخر من السوء حين يتم النظر من خلاله إلى الشرق على أنه يعكس للغرب الجمود في المكان والزمان. وكانت الكتابات الوصفية والأدبية للاستشراق ذات سطوة ملحوظة لدرجة أن مراحل كاملة من حضارة الشرق، وتاريخه السياسي، والاجتماعي أعتبرت مجرد ردود فعل على الغرب. هو الفاعل، والشرق السلبي صاحب ردود الفعل. الغرب هو المشاهد، والحكم، وهيئة المحلفين لكل مظهر من مظاهر السلوك الشرقي." يتسم كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" بشكل عام بطروحات فكرية جديدة جريئة تستند إلى ثقافة ثرية متنوعة، وقدرات لغوية راقية – كما يتبين من الاقتباسين المترجمين عن سعيد أعلاه - من الصعب تملكها إلا لدى القلة من الكتاب والمفكرين الأفذاذ، كما يتسم أسلوب سعيد بميل إلى الإبهار اللغوي الذي يغلّف القارئ، ويجعله أسيراً لتحليلات الكاتب وأدلته المتنوعة من الفكر والأدب والتاريخ. وقد أعيد طبع الكتاب أكثر من عشر مرات حتى الآن، كما ترجم إلى عشرات اللغات المختلفة. وفي العربية قدمت الترجمة الأولى للكتاب مبكراً عام 1981 من قبل الشاعر والناقد السوري كمال أبوديب (الذي يحظى بمديح سعيد / ص 330) التزم فيها بلغة النص الأصلي لسعيد. فجاءت هذه الترجمة ذات لغة يصعب فهمها من قبل القارئ العربي فيها إطراءات، وقدر من التمجيد للكتاب ومؤلفه. أما الترجمة الثانية المشهورة فجاءت متأخرة عام 2006 وبعد أن قام سعيد بمراجعته للنص الأصلي للكتاب مضيفاً إليه فصلاً جديداً ختامياً، بعنوان "كلمة ختامية" في رده على بعض منتقديه، وبعد تأليف كتابه الآخر "الثقافة والإمبريالية" عام 1993 للرد على منتقديه أيضا، واستكمال مشروعه الفكري النقدي للاستشراق. وقام بهذه الترجمة محمد العناني الذي اعتمد في ترجمته أسلوب التعريب بدل التغريب - كما يقول - أي تقديم الفكرة بلغة عربية معاصرة دون الالتزام الكامل بالنص الحرفي للفكرة في كتاب سعيد. تعرض الكتاب لعديد من الانتقادات وجهت لموقف سعيد من الثقافة والهوية في الشرق الإسلامي ودور الاستشراق في ذلك، واتجاه العلاقة بين الاستشراق والاستعمار لا سيما من قبل برنارد لويس، وألبرت حوراني، وصادق جلال العظم ركزت على تبيان أن سعيد اتسم في مؤلفه "الاستشراق" بنزعة واضحه للمبالغة في استخدام الصور النمطية، والتعميم المسطّح فيما يتعلق بفئات المستشرقين. فقد أغفل سعيد وجود استشراق ألماني وآخر مجرّي لم يكن له ارتباط بالسياسات الاستعمارية في الشرق الأوسط. كما أغفل سعيد حقيقة تاريخية وهي أن الفترة الممتدة من 1800 وحتى 1911 كانت فترة هيمنة للدولة العثمانية على الشرق الأوسط المسلم، وأجزاء من أوروبا. وهي - أي الدولة العثمانية - التي هددت أوروبا وليس العكس. كما اتهم أيضاً بأنه معاد للغرب والثقافة الغربية المنفتخة والمتسامحة، ويأخذ الغرب كله وحدة واحدة ولا يميز بين مكوناته المختلفة في مواقفها من العرب والإسلام. كما انُتقد الكتاب من قبل صادق العظم في كتابه "الاستشراق والاستشراق معكوسا" حيث يركز العظم على اتجاه العلاقة التي يؤكدها سعيد بين الاستشراق والاستعمار الغربي. ففي حين يرى سعيد أن الاستشراق قاد إلى حدوث الاستعمار الغربي للبلدان العربية وعدد من البلدان الإسلامية الأخرى يرى العظم أن التوسع الاستعماري، وما أوجده من مصالح سياسية واقتصادية هو الذي صنع الاستشراق لتعظيم مكاسبه، وتسهيل الحصول عليها. وهو ينطلق في ذلك من مسلمات الماركسية الكلاسيكية حول العلاقة بين البنية التحتية المادية والبنية الفوقية الفكرية، فالبنية التحتية هي التي تنتج البنية الفوقية وليس العكس بحسب هذا التحليل الماركسي. ويؤكد العظم أن المصالح المادية الحيوية هي محرك التاريخ، وهي بالتالي التي تنتج خطابها الاستشراقي. ولم يعط العظم – وكذلك سعيد- اهتمامهما لإمكانية وجود علاقة تبادلية بين الاستعمار والاستشراق، فكل منهما يعضد الآخر، ويقويه كما تشير الأدلة التاريخية والمعاصرة. ومع ذلك، يعترف العظم أن سعيد حقق إنجازا ملحوظا في تمكنّه من تعرية طروحات المركزية الغربية التي تصوّر الشرق وثقافته على أنه أرخبيل الخنوع والسلبية والتأخر السرمدي، لكنه يرى أن ذلك أدى - ربما بشكل غير مقصود – إلى تطور استشراق معكوس في الفكر العربي المعاصر تقوده بعض التيارات الدينية التي ترفض واقع بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وتعمل على محاربة هذه المجتمعات، ومحاربة التيارات الفكرية الأخري فيها، لا سيّما التحديثية والليبرالية منها. وفي تعليق سعيد على هذه الانتقادات وغيرها أشار إلى أن بعضها كان شديد اللهجة، عدائيا، وبعضها شابه قدر من عدم الفهم لمضمون الكتاب؛ لكن بعضها الآخر كان مشجعا، وبناءً (ص 320). ويمكن النظر إلى هذه الانتقادات التي قدمها لويس، وحوراني، والعظم على أنها تشكل وجهات نظر تستحق الاحترام، لكنها لا تقلل بأي حال من مكانة إدوارد سعيد فكريا وأكاديميا عربيا وعالميا سيّما وأنه نتاج للأكاديميا الغربية الأميركية التي تشتهر بالتنافس الشديد والعادل، وتحقيق إختراقات علمية وفكرية متواصلة تؤثر في العلماء والمفكرين في مختلف البلدان. د. مجد الدين خمش - بروفيسور علم الاجتماع - عميد كلية الآداب (سابقا) – الجامعة الأردنية – عمان
مشاركة :